عنهم ما يكفيهم، فنزل عليّ البلاء من فوق المنابر، وصرت المثل المضروب للشابّ الأرعن الوقح قليل الحياء، الذي يتطاول على العلماء ويتناول الخطباء ... وما أوسع أبواب الهجاء لمن شاء دخوله.
وكانت «نهضة المشايخ» لا تزال مستمرّة، وإن خفّت شدّتها وقلّت حدّتها، فجاءنا من حلب شيخ في الزيّ شابّ في السنّ، لم يكن عالماً ولا طالب علم متمكّن ولكنه كان خطيباً من أعظم من سمعت من الخطباء؛ جهير الصوت، حاضر البديهة، حسن الإلقاء، يتدفّق بالكلام تدفّق النبع الغزير، هو الشيخ أحمد الصابوني. فصار لسان جماعة المشايخ من أصحاب الشيخ علي الدقر، المحامي عنهم، وانضمّ إليه آخر من دمشق أصغر منه في السنّ ومثله في العلم! ودونه في الخطابة واللسَن، لا يقاربه على صهوات المنابر ولا يدانيه ولكنه متكلّم خطيب.
وكان الشيخ الصابوني يريد (والله أعلم بحقيقة ما يريد) الوصول إلى الجمهور وكان يفتّش عن أقرب طريق يسلكه إلى غايته، وكانت «رسائل الإصلاح» -على قِلّة عدد المطبوع منها- قد سرَت (كما كان يقول الأولون) سريان النار في الهشيم، أي في القشّ اليابس، وصار الرجل يقرأ النسخة ثم يعطيها غيره ليقرأها، فتمرّ كل نسخة على عدد من الناس، كان أكثرهم (والحقّ يُقال) لا يقرؤها ليثني عليّ بل ليسبّني، وكان الغضب عليّ وعليها يسبق وصول الرجل إليها، فكان الطريق تأليف كتاب صغير في الردّ عليها.