وسألت إخواني، أعني من بقي منهم فإن أكثرهم مضى إلى لقاء ربه، وسألت مَن قدّرت أن أجدها عنده فما وجدت لها أثراً. فاعجبوا معي من تحوّل الأحوال: رسائل أثارت يوماً بلداً، ثم جاء يومٌ يفتّش مؤلّفها عن نسخة منها فلا يجدها!

قرأت هذه الرسالة فَرِحاً لأني وجدت فيها صورة عن تفكيري ونسخة من أسلوب كتابتي قبل أربع وخمسين سنة. والذي سرّني أني وجدت الأفكار التي اشتملت عليها هي نفسها أفكاري الآن، وما دعوت إليه يومئذٍ هو الذي أدعو إليه اليوم، ما بدّله مرور أكثر من نصف قرن. ومن الكتّاب من يبدّل أفكاره كما يبدّل قمصانه! أما أسلوبها فليس هو الذي أكتب به الآن، ولكنه (وسترون ممّا أنقله من فقرات الرسالة) أسلوب جزل صحيح، وعفوكم فأنا هنا في مقام المؤرّخ أقول الحقّ الذي هو لي كما أقول الذي هو عليّ.

وكنت لما كتبتها حديثَ عهد بدراسة الفلسفة، فكان في القسم الأول من هذه الرسالة جذور ما كتبتُه في كتابي «تعريف عام بدين الإسلام». وقد درسنا الميتافيزيك (أي ما وراء المادة) والمنطق، منطق أرسطو الذي كان يقرؤه المشايخ والمنطق العلمي الحديث، وعلم الأخلاق، وعلم النفس، وكنا ندرس ذلك كله في الكتب ذاتها التي كان يدرسها الطلاّب في باريس، هذا ما أرادونا عليه وكلّفونا به. وعلم النفس الفرنسي يعتمد على النظريات لا كالذي يُدرَس الآن، فقد درسنا نظريات ومذاهب في اللذّة والألم -مثلاً- وتحقيق ماهيتهما لم يعُد الطلاّب يهتمّون بها في غير فرنسا، ودرسنا علم الجمال وعلم الاجتماع. وبعضُ ما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015