يزال عندي كثير من هذه الفصول التي كتبتها من أكثر من نصف قرن، فيها قصص ومشاهد من الحياة وغرائب من وقائعها، ومثال من موضوعات الأفلام في تلك الأيام، ولا تخلو من تعليق فيه عِبرة ومن نصيحة أو موعظة. وأقوى المواعظ أثراً ما جاء عَرَضاً من حيث لا يتوقع السامع، لذلك كانت كلمة وعظ من مدرّس فيزياء أبلغ (أحياناً) من محاضرة من مدرّس الفقه، وقد شاهدت في المحكمة أن الطعنة التي يتوقعها الإنسان لا تبلغ منه ما تبلغه واحدة مثلها من الغافل عنها.
وقد تحسبون أني كنت من رواد السينمات ومن العاكفين على الملاهي، ولا والله، ولقد حزت شهادة البكالوريا ولم أدخل السينما إلاّ مرة واحدة، هي التي أخذونا إليها ونحن صغار أيام الحرب الأولى فأرونا مشاهد من حرب جناق قلعة عند المضيق قرب إسطنبول، ما فهمت منها شيئاً.
ولم يكن يمنعني من السينما ومن أمثالها أب ولا أخ، فقد عرفتم أن أبي رحمه الله مات وأنا في الصف الثامن سنة 1343هـ وأنه ليس لي أخ أكبر منّي فأنا بِكْر والدَيّ، ولكن منعني منها ما رُبّيت عليه من الدين، ومَن كنت أتصل به وأحضر مجالسه من العلماء، وثالثة ليست دونهما هي أني لم أتخذ رفيقاً إلاّ من المدرسة وداخل المدرسة.
ولقد كنت أرى في السينما (حتى لمّا صرت أتردّد عليها) أجمل ملهاة للشابّ وأخطر ملهاة، وأنها كالسم المحلول في كأس الشراب اللذيذ، لا يكاد يذوقه حتى يسيغه، ثم يألفه فيعتاده