الأفكار ألفاظاً والصور كلمات، يفكّر صاحبه بيده لا برأسه، قد يثير فيك العجب من دقّة صنعته أو الإعجاب ببارع زخرفته، لكنه لا يثير في ذهنك فكرة ولا يبعث في قلبك عاطفة، فهو لوحة فسيفساء جامدة لا طاقة زهر، تمثال حسناء من الشمع لا الحسناء نفسها. وهذا هو أسلوب الصاحب بن عبّاد والقاضي الفاضل، الأسلوب الصناعي الذي بلغ الغاية في «مقامات الحريري».
وهؤلاء هم الكتّاب الذين أولع بهم أساتذة الأدب في المدارس والذين وضعوا لهم المناهج وحدّدوا لهم الموضوعات. وما هؤلاء بأعظم كتّاب العربية، وما أسلوب ابن العميد والصاحب والقاضي الفاضل وابن الأثير (صاحب «المثل السائر») بالأسلوب الذي يصلح قدوة للطلاّب، فضلاً عن «مقامات الحريري» التي كانت تُعَدّ -يوماً- النموذج الأكمل للأسلوب الأجمل!
هذا على ما فيها من براعة في اللعب بالألفاظ كلعب السحَرة في «السيرك»، وعلى أن كتاب «المثل السائر» أجود كتب البلاغة، لولا غلاظة صاحبه واستشهاده المملّ برسائله وكتاباته، ولولا طول لسانه وشتمه الناس بلا سبب.
* * *
لا، ما هؤلاء هم كبار الكتّاب الأقدمين، ولكن أكبر كتاب العربية خمسة: الجاحظ، لا أستطيع أن أنفيه منهم ولا أبعده عنهم، وأبو حيّان التوحيدي أول قصصيّ مبتكِر في أدبنا، والغزالي حين يحلّل النفس البشرية في «الإحياء»، وابن عربي في «الفتوحات» إذا قسناه بمقياس الأدب لا بمقياس الدين، وابن