خلدون في «المقدّمة».

هؤلاء كالأنهار الكبار. هل رأيتم بردى وإلى جنبه العين الخضراء؟ هو يجري دفّاقاً متقحّماً قوياً كفارس غضّ طرْفه وكدّ فرسه وشهر سيفه، وأغار على جيش العدوّ لا يبصر ما أمامه، وهي تخرج خَجِلة من تحت الصخرة عند رِجْل الجبل تمشي في ساقية صغيرة، فترى الساقية خالية ما فيها إلاّ حصى لمّاع لا يظهر فيها -من صفائه- الماء، تخطر على استحياء كأنها عذراء خرجت من خدرها أول مرة.

هؤلاء الخمسة وأمثالهم (إن كان لهم أمثال) هم كالأنهار الكبار، أما السواقي الصافية كالعين الخضراء فكثيرة، أمثّل لها بمثل واحد هو ابن السمّاك، وأمثّل لكلامه بكلمة واحدة قالها في رثاء دواد الطائي، قال: "يا داود، ما أعجب شأنك بين أهل زمانك! أهنت نفسك وإنما تريد إكرامها، وأتعبتَها وإنما تريد راحتها، أجشبت المطعم وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس وإنما تريد لينه، ثم أمتَّ نفسك قبل أن تموت وقبرتها قبل أن تُقبَر. رغّبت نفسك عن الدنيا فلم ترَها لك قدراً إلى الآخرة، كان سيماك في سرّك ولم يكن سيماك في علانيتك، تفقّهْت في دينك وتركت الناس يُفتُون، وسمعت الحديث وتركتَهم يتحدثون، وخرست عن القول وتركتهم ينطقون، لا تحسد الأخيار ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عَطيّة ولا من الإخوان هَديّة، آنس ما تكون إذا كنت بالله خالياً، وأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس! فمن سمع بمثلك، وصبر صبرك، وعزم عزمك؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015