أصحاب هذه البيوت بمقدار ما كانت تساوي بيوتهم. فلما أُقيمَ القصر العدلي أجّلوا إزالة البيوت القديمة من حوله وأرجؤوا فتح الشوارع: الشارع الذي ترونه الآن غربيّ القصر والشارع الجنوبي منه. فكنت أنظر من غرفتي فأرى مثل آثار الدرعية، أرى بيتاً بقي منه جدار واحد وغرفةً فوقه ذهب نصفها.
وأنا لا يُصيبني ويحرّك سواكن نفسي كالوقوف على الأطلال. إنني أرمّمها في خيالي وأصلحها كما يرمّم البيتَ العتيق مالكُه حتى يُعيد إليه من بهائه ما يمكن أن يعود! كنت أنظر إلى الغرفة التي بقي نصفها فأراها ونصفها معها، ومع صاحبها نصفه الآخر من البشر: الزوج وزوجته، والجدران ساترة، والباب مُغلَق. أراها وقد عادت الحياة إليها ورجع إليها أهلوها، حتى إني لأسمع لغط صبيانها وأحاديث نسائها وقرع قباقيبهنّ على بلاطها! مع أنها قد زالت الجدران فانكشف المخبوء وذاعت الأسرار، وصار مَن فيها كأنهم يمشون في السوق بلا ثياب.
كم تُخفي هذه الأبواب وراءها، وهذه السقوف كم تخبّئ تحتها! لي مقالة كان عنوانها «في الليل» نشرها الأستاذ الزيات في الرسالة سنة 1943 كان مما قلت فيها:
إن الطبيعة ظاهرها كباطنها، لا يُضمِر الجبلُ نفاقاً ولا السهلُ يبطن حقداً ولا السحابُ ينطوي على مكر، ثم أنظر إلى هذه السقوف التي كانت تبدو لي تلك الليلة بهية برّاقة، يقطر منها النور بعدما اغتسلت بضياء القمر وماء المطر، فأفكّر فيها: ماذا تحت هذه السقوف؟ كم تحتها من خبايا وعجائب ومؤتلف ومختلف!