كم من معبد لمتهجّد متنسّك إلى جنب مخدع لمستهتر متهتّك، هذا خلا بربّه وذاك بحبّه، فتجاورت منهما الظلمة والنور.
وكم من سرير لميت يحفّ به أهله يبكون، ومضجع لعروسين أحاط بهما الأقرباء يضحكون، ومَن يبيت يتبرّم بالولد ومن يتألم من العقم، وشاكٍ من التخمة وباكٍ من الجوع، ومسرور يتمنى لو طال الليل ومنكود موجَع ينتظر النهار، وكادح للعيش ناصب لا يستريح نهاره ولا يكاد ينام ليله، همّه المال يجمعه ويركمه قد حرم نفسه من أجله الطيبات، ولو كُشف له الغطاء لعلم أنه إنما سخّره الله لآخر فهو يجمعه له ويكدح من أجله، وذاك نائم لا يفكّر فيه ولا يباليه، حتى يجيء وقته فيأتيه ...
(إلى أن قلت): وكم من أديب، أديب حقاً، قد طاعت له عَصِيّات الكَلِم وذلّت له العوالي من قطوف البلاغة، قد انزوى في خُصّه لا يدري به أحد، ودَعِيّ جاهل، لصِّ مَعَانٍ وصَفّاف كلمات، قد جُمِع له المجد الأدبي من أطرافه فكان له الاسم السائر والمال الوافر! ومُتَمَشْيِخ قد لبس مسوح الزاهدين واتّزر بإزار الصالحين، قد عرّض لحيته وكوّر عمامته وأدلى عذبته وطوّل سبحته، ودعا الناس إلى الزهد في الدنيا ونبذ الأموال ورمي النقود في الطرقات لأنها وسخ الدنيا، فلما أطاعوه ورموها خالفهم إليها فالتقطها ...
(إلى أن قلت): كم تحت هذه السقوف من شاعر يعتقد أنه خُلق روحاً بلا جسم وأنه يتغدى بالحب ويتعشى العواطف، قد أغلق بابه وطفق يعدّ نقوده التي يستوحيها الخيال ويستلهمها الشعر،