منهم: نحن نستحبّ صور الخيال ولكن إن بلغَت في الغلو هذا المبلغ صارت من المُحال. ولو رُويَت لي ولم أكن رأيتها بعينَي رأسي لم أصدقها ولو كان راويها أصدق الناس!

لقد كنا في حفلة الافتتاح كالمساجين، لا نملك خروجاً من المدرَّج لأن الأبواب كلها قد سدّتها أجساد الناس، والطرق المُفضية إليها قد سدّتها أجساد الناس، كنا محبوسين من رئيس الجمهورية والعلماء والرؤساء والوزراء إلى آخر من كان حاضراً معنا فيها، وامتدّت الحفلة خمس ساعات متتاليات والناس يقاتلون ليدخلوا إليها.

كنت أعلم وأنا أخطب في بداية الحفلة أن هذا الشعب سيستجيب وأنه سيلبّي وأنه سيُقبِل على البذل والعطاء، ولكني كنت أقلّب النظر في وجوه الحاضرين فلا أرى من أهل المال إلاّ عشرين أو ثلاثين، فكان أقصى أملي أن يُعطي هؤلاء وحدهم ثم ينتهي الفصل ويُرخى الستار. فلم تكَد تنتهي الخطب ويبدأ العشرة الكبار من رجال المال بالتبرّع، وتُذكر عشرات الآلاف، بل تُذكر مئة الألف أحياناً، ويترقّب الناس أمثال هذه الأرقام الكبار، حتى كانت مفاجأة ما كان يتوقّعها أحد وما استطاع أن ينجو من دهشتها أحد: رجل عامّي يبدو عليه الفقر، يقوم من غمار الناس ليصل إلى لجنة الجمع، فيمنعه الشرطة فلا يمتنع، بل يغامر ويتقدم حتى رآه الرئيس فأشار إليهم أن يتركوه، فتركوه فوصل، فإذا هو يُقسِم أن بنته مريضة في الدار وأنه لا يملك إلا الليرات الخمس التي استقرضها ليشتري بها لبنته الدواء، فلما رأى الاجتماع دخل ومدّ يده به ليتبرّع بها ليوم التسلّح.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015