ففتح بذلك الباب لهذه المكرمات التي زادت هذا الوطن شرفاً إلى شرفه، ورفعته في عيون أهله وعيون الناس فوق رفعته. وجاء جندي من جنود الدرك (الشرطة) مرتَّبه مئة وخمسون ليرة في الشهر كله، فوقف أمام الرئيس وضرب قدماً بقدم، وسلّم السلام العسكري، ثم قدم مئة ليرة. ويأتي طفل صغير بمطمورته التي يجمع فيها قروشه فيقدّمها كلها متبرّعاً بها! وأنا قاعد على المنصّة أرى هذا كله بعيني، ويتزاحم الناس على منصّة اللجنة ويتدافعون، والرابح من استطاع أن يصل إليها وأن يُعطي ما بيده، كأنه يحمل جمرة يريد أن يُسرِع بالتخلّص منها. وتتوالى مشاهد لم يرَ الناس ولم يسمعوا، ولم يقرؤوا في كتب التاريخ ما يماثلها أو يدانيها.
ولا أسجّل هذه المشاهد كلها. وأنّى؟ وليست عشراً ولا عشرين ولكنها بلغت المئات.
صدّقوني فإنني أكتب لكم بقلم المُخبِر الصادق لا بقلم الشاعر المبالغ. إنها مشاهد هؤلاء الذين لم يمنعهم المطر المنهمر في تلك الليلة كأفواه القِرَب، ولم تمنعهم الريح الباردة التي كانت تلسع الوجوه بأمثال السياط، من أن يزدحموا على الباب يبتغون الوصول. وقد حسبهم الشرطة قد جاؤوا للتفرّج فجعلوا يدفعونهم، لم يدروا (ولم يكن أحد ليدري) أنهم ما خرجوا من بيوتهم في هذا الليل البارد ولا وقفوا على الباب تحت المطر المنهمر ولا زاحموا إلاّ ليعطوا ويبذلوا.
لقد كان هذا الأسبوع امتحاناً لهذا الشعب وسلائقه واستعداده