أصابعك بعدها! ولو صحّ هذا الكلام ما بقي إصبع في كفّ إنسان.
ولم يكن في شارع الرشيد على طوله بناء يعلو أكثر من ثلاث طبقات، لأن الأرض كما قالوا رخوة لا تحتمل البناء العالي. وكنّا نقف أمام دجلة فنرى الماء عند الفيضان -لولا هذه السدود من التراب القائمة على جانبَي النهر- يكاد يصل إلى صدورنا. وأول بناء عالٍ شُيّد على أيامنا تلك، بناء لتاجر أذكر أن اسمه حسّو. أقامه كما قالوا على قاعدة واسعة من الأبرق (الإسمنت المسلّح).
وكنت أحياناً أمشي وسط الأسواق، أخرج من الثانوية المركزية فأمرّ على سوق السراي، حيث تُباع الكتب وحيث أكثر المكتبات، ثم تتبدّل البضائع فيكون لكلّ تجارة سوق خاصّة بها. ومنها سوق كنت أقف فيه فأحسّ أني في حديقة زهر متعدّد الألوان، فيه أقمشة حريرية ملوّنة. وقريب منه سوق البلّور والتحف والأنوارُ الساطعة القوية تبرق من خلال بلّوره وتحفه، فيكون لذلك منظر بهيج.
والأسواق كلّها مسقوفة، لا يحسّ مَن فيها حرّ الشمس ولا يجد بلل المطر، حتّى أنتهي إلى سوق الفضّة حيث أجد عُمّالاً بلِحى طويلة جداً، أصحاب هذه اللِّحى يسمّيهم الناس «الصبة». ولعلّ أصل الكلمة «الصابئة»، فهم ليسوا مسلمين ولا عرباً، ولكنهم ينفردون بمهنة لا يعرفها في الدنيا غيرهم، يتوارثونها بينهم لا يعلّمونها إلاّ أبناءهم، هي الكتابة والنقش على الفضّة.