في سُكنى مكةَ؟ قال: سمعت العلاء بن الحضرميّ قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "ثلاث للمهاجر بعد الصدر". و"الصدر" بفتح المهملتين، أي بعد الرجوع من مني.
(قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - يَمْكُثُ الْمُهَاجِرُ) من باب قتل: أي يقيم، ويتلَبّثُ، ومَكُث مُكثا، فهو مَكيث، مثلُ قرُب قُربًا، فهو قريب لغةٌ، وقرأ بها السبعة قوله تعالى: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) باللغتين. قاله الفيّومي (بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ) أي فراغه من أعمال الحجّ، وأصل النسك بضمتين: العبادة، والمراد هنا أفعال الحج، يقال: نسك للَّه ينسُك، من باب قتل: تطوع بقُربة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي}، ومناسك الحج: عباداته، وقيل: مواضع العبادات. أفاده الفيومي (ثَلَاثًا) أي ثلاثة أيام بلياليها، وذكر العدد، لكون التمييز محذوفا، كما تقدم.
قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: معنى هذا الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة. وحكَى عياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة -يعني بعد الفتح- فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه.
قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سُكنى المدينة كان واجبًا لنصرة النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين، فيجوز له سُكنى أيّ بلد أراد، سواء مكة وغيرها بالاتفاق انتهى كلام القاضي.
ويستثنى من ذلك من أذن له النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - بالإقامة في غير المدينة.
وقال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة
لنصرة النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، ولا يُعنى به من هاجر من غيرها؛ لأنه خرج جوابًا عن سؤالهم لمّا تحرّجوا من الإقامة بمكة، إذ كانوا قد تركوها للَّه تعالى، فأجابهم بذلك، وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة.
قال: والخلاف الذي أشار إليه عياض كان فيمن مضى، وهل ينبني عليه خلاف فيمن فرّ بدينه من موضع يَخاف أن يُفتن فيه في دينه، فهل له أن يرجع إليه بعد انفضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال: إن كان تركها للَّه كما فعله المهاجرون، فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فرارًا بدينه، ليَسلَم له، ولم يقصد إلى تركها لذاتها، فله الرجوع إلى ذلك انتهى.
قال الحافظ: وهو متجه، إلا أنه خص ذلك بمن ترك رباعًا أو دورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة. واللَّه تعالى أعلم انتهى (?).