وقد ذكر ابن مالك أن "بيد" في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "بيد أني من قُريش" بمعنى "غير"، مثل قوله [من الطويل]:
وَلَا عَيبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
وسبقه إلى ذلك ابن الأثير في "النهاية"، وإنما استبعد القاضي عياض كون "بيد" في الحديث الذي نشرحه بمعنى "من أجل"، لتعلّقه بأقرب مذكور، وهو "السابقون"، فهو استثناء منه في المعنى، كأنه استثنى من سبقنا كون أهل الكتاب أوتوا الكتاب من قبلنا، ويتحد (?) في المعنى كونها بمعنى "غير"، وكونها بمعنى "على"، وكونها بمعنى "إلّا".
أما إذا جعلناه متعلّقًا بقوله: "الآخرون" اتجه كونها بمعنى "من أجل"، أي نحن الآخرون من أجل أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وهو بعيد كما قال، لبعده في اللفظ، ولأنه لا يحتاج إلى توجيه كوننا الآخرين بهذا، فإنّ هذا أمر معلوم، إنما الذي يحتاج إلى توجيه كوننا السابقين، وقد بين وجهه، وهو السبق يوم القيامة إلى الحظوظ الأخروية من الإراحة من كرب الموقف، ودخول الجنة.
وقد يقال: إذا كان السبق مقيداً بكونه يوم القيامة، فلا حاجة إلى أن يُستثنى إيتاؤهم الكتاب قبلنا؛ لأن هذا ليس يوم القيامة، وإنما هو في الدنيا، فالمذكور أوّلًا، وهو سبقنا يوم القيامة، لا استثناء فيه، فإذا أن يقال: إن هذا في معنى الاستثناء المنقطع، وإما أن يقال: إيتاؤهم الكتاب قبلنا في الدنيا يظهر له ثمرة يوم القيامة، فيكون هذا من سبقنا إلى الحظوظ الأُخروية، أي إلا ثمرة إيتائهم قبلنا الكتاب يظهر فيه سبقهم يوم القيامة، وفيه بُعد، وهو محتاج إلى زيادة نظر.
وذكر القاضي عياض أنه وقع عند بعض رواة مسلم "بأيد" بكسر الباء، بعدها همزة مفتوحة، كقوله تعالى: {بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}، أي بقوة أعطاناها الله، وفَضّلنا بها لقبول أمره وطاعته، قال: وعلى هذا تكون "إنهم" مكسورة لابتداء الكلام، واستئناف التفسير، قال: وقد صحّت، والصواب الأول عند أكثرهم انتهى.
[واعلم]: أن الحديث في "مسند الشافعي" من طريق طاوس، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ "بَيْدَ" كما هو الرواية المشهورة.
ومن طريق أبي الزناد، عن الأعرج، وطريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة بلفظ "بايد"، واختلفت النسخ في ضبطه، ففي بعضها مفتوح الآخر، مثل "بيد"، إلا أنه زاد ألفاً بعد الباء، فكسر لذلك الياء لالتقاء الساكنين، وفي