و"من" بمعنى "في"، كما قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية: [الجمعة: 9]، والجار والمجرور خبرها، و"حين" مضاف إلى جملة "يمضي"، ويجوز إعرابه، وبناؤه على الأصح، فيُجرّ بالكسرة، ويُبنى على الفتح، لإضافته إلى فعل معرب، كما قال ابن مالك:
وَابْنِ أَوَ أعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيا ... وَأخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا
وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا ... أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا
أي فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في وقت مضيّ عشرين ليلة من رمضان.
ويحتمل أن تكون "كان" تامّة، و"من" زائدة على رأي بعض النحاة في زيادتها في الإثبات، و"حين" فاعل "كان"، أي إذا جاء وقت مضيّ الليلة العشرين من رمضان (وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ) جملة معطوفة على جملة "يمضي"، أي واستقبال إحدى وعشرين منه (يَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهِ) جواب "إذا" (وَيَرْجِعُ) وفي نسخة: "ورجع" (مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ) أي يعتكف مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، من أزواجه، وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.
والمعنى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من عادته في رمضان أنه يعتكف العشر الأوسط منه طلباً لليلة القدر، فإذا مضى عشرون ليلة من رمضان رجع إلى ييته لظنه أن ليلة القدر انقضى وقت طلبها، ورجع أيضاً من اعتكف معه تلك الليالي إلى بيوتهم. والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ فِى شَهْرٍ، جَاوَرَ) أي اعتكف (فيهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا) أي يرجع إلى بيته في صبيحتها، وهي الليلة العشرون من رمضان.
وفي رواية للبخاري من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: "فخرج صبيحة عشرين، فخطبنا". وهي أصرح في المراد.
(فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَمَرَهُمْ بِمَا شَاءَ اللهُ) أي من أمور الدين (ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي كُنّتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ) أي العشر الأوسط (ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُجَاورَ هَذِهِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ) يعني أنه تبيّن له بالوحي أن الاعتكاف المطلوب في العشر الأواخر، لا في الأوسط. والله تعالى أعلم (فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ) بصيغة اسم المفعول، أي محلّ اعتكافه من المسجد (وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ) وفي رواية للبخاريّ: "إني أريت ليلة القدر". يعني أنه أراه الله تعالى في منامه تعيين تلك الليلة (فَأُنْسِيتُهَا) بالبناء للمفعول، وفي البخاريّ: "فأنسيتها، أو نسيتها" بالشك. قال في "الفتح": شك من الراوي، هل أنساه غيره إياها، أو نسيها هو من غير واسطة، ومنهم من ضبط "نُسّيتها" بضم أوله، والتشديد، فهو بمعنى "أنسيتها"، والمراد أنه أُنسي علم تعيينها في تلك السنة انتهى.
وسبب نسيانها هو ما أخرجه البخاريّ من حديث عُبَادة بن الصامت -رضي الله عنه-، قال: