قال الحلبي: ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل دلالته على نفي الذات ثبت أن دلالته على نفي الصفات مستمرة، فحيث ولابد من مقدر يتوجه النفي إليه فما هو في حكم العدم، والشارح (يعني ابن دقيق العيد) ذكر مرجحا آخر وهو أن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، يريد أن الأفعال الصحيحة أكثر وجودا من الأفعال الكاملة فيتوجه النفي إلى ملازم الحقيقة، فكان نفي الملازَم -بالفتح- وهو ملاق للأول، إذ نفي الملازَم كنفي الملازِم.
وقوله: لأن ما كان ألزم للشيء كان أقرب إلى خطوره بالبال، وهو مُلاَقٍ لقول أهل الأصول لسبق المقصود إلى الفهم.
قلت: وهنا مرجح أوضح وهو أن خطابات الشارع محمولة على تعريفه وتعليمه للمكلفين التكاليف الصحيحة إذ هي المطلوبة منهم، ولذا حملت الخطابات المطلقة في مثل {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: آية 230]، على النكاح الصحيح لأنه مطلوب الشارع، لا الفساد فلا يكون محللا، فكذلك يكون مطلوب الشارع تعريف العباد صحيح التكاليف التي يسقط الطلب بها وتستحق به الإثابة، وأما الكمال فهو مطلوب ندبا لا وجوبا وإلا لزم أن لا يجزئ إلا الكامل من الأفعال لا الصحيح، على أني أقول: ها هنا مانع من تقدير الكمال وهو أنه سيق الحديث لبيان الأعمال التي يثاب عليها العباد، فلو قدر الكمال لزم أن لا يثاب العباد، فلو قدر (?) الكمال على الأفعال الصحيحة حتى تتصف بالكمال وهو باطل، ثم الكمال يتفاوت بتفاوت رتب العاملين، فصلاة نبينا - صلى الله عليه وسلم - أكمل الصلوات، ثم تختلف رتبته على اختلاف طبقات الأتقياء،