فالمعانى الثلاثة متقاربة، فالخمر تُركت وخُمِرت حَتَّى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته، والأصل الستر.
والخمر ماء العنب الذي غَلَى، أو طُبخ، وما خامر العقل منْ غيره، فهو فِي حكمه؛ لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام، وإنما ذكر الميسر منْ بينه فجعل كله قياسا عَلَى الميسر، والميسر إنما كَانَ قِمارًا فِي الْجُزُر خاصة، فكذلك كل ما كَانَ كالخمر فهو بمنزلتها.
والجمهور منْ الأمة عَلَى أن ما أسكر كثيره، منْ غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره، والحد فِي ذلك واجب، وَقَالَ أبو حنيفة، والثوريّ، وابن أبى ليلى، وابن شُبْرمة، وجماعة منْ فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره منْ غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سَكِر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر، فلا حد عليه، وهذا ضعيف، يَرُدُّه النظر، والخبر عَلَى ما يأتى بيانه، إن شاء الله تعالى.
[تنبيه]: قَالَ بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يَدَعْ شيئاً منْ الكرامة والبر، إلا أعطاه هذه الأمة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة، فكذلك تحريم الخمر، فأول ما نزل فِي أمر الخمر آية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية [البقرة: 219]، ثم بعده: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية [النِّساء: 43]، ثم قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]، ثم قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]. ذكره أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله تعالى فِي "تفسيره" 3/ 51 - 52. والله تعالى أعلم بالصواب.
(قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 90، 91]).
شرح الآية الكريمة
(قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر، والميسر، وهو القمار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء، إذ كانت شهوات وعادات، تَلَبَّسوا بها فِي الجاهلية، وغلبت عَلَى النفوس، فكان نَفِىٌّ (?) منها فِي نفوس كثير منْ المؤمنين. قَالَ ابن عطية: ومن هَذَا القبيل هَوَى الزجر بالطير، وأخذ الفأل فِي