بيّنه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لو يُعطَى النَّاس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال، وأموالهم".
وَقَالَ العلماء: الحكمة فِي ذلك أن جانب المدعي ضعيف؛ لأنه يقول خلاف الظاهر، فكُلّف الحجة القوية، وهي البينة؛ لأنها لا تجلب لنفسها نفعا، ولا تدفع عنها ضررا، فيقوى بها ضعف المدعي، وجانب المدعى عليه قوي؛ لأن الأصل فراغ ذمته، فاكتُفي منه باليمين، وهي حجة ضعيفة؛ لأن الحالف يجلب لنفسه النفع، ويدفع الضرر، فكان ذلك فِي غاية الحكمة.
(الثاني): اختلف الفقهاء فِي تعريف المدّعِي، والمدّعَى عليه، والمشهور فيه تعريفان: [الأول]: المدعي منْ يخالف قولُه الظاهرَ، والمدعَى عليه بخلافه. [والثاني]: المدعي منْ إذا سكت تُرك وسكوتَهُ، والمدعَى عليه منْ لا يُخَلَّى إذا سكت، والأول أشهر، والثاني أسلم، وَقَدْ أورد عَلَى الأول بأن المودَع إذا ادّعى الردّ، أو التلف، فإن دعواه تخالف الظاهر، ومع ذلك فالقول قوله، وقيل: فِي تعريفهما غير ذلك. قاله فِي "الفتح" 5/ 617.
(وَلَوْ أنَّ النَّاسَ أُعْطوا) بضم الهمزة، والطاء، وأصله: أعطِيُوا، كأُكرموا، فأعلّ بنقل حركة الياء إلى الطاء بعد سلب حركتها، ثم حُذفت الياء للالتقاء الساكنين (بِدَعْوَاهُمْ) متعلّق بما قبله، والباء سببيّة (لَادَّعَى نَاسٌ) قَالَ الفيّوميّ: النَّاس اسم وُضع للجمع، كالقوم، والرهط، وواحده إنسانٌ منْ غير لفظه، مشتقّ منْ ناس ينُوس: إذا تدلّى، وتحرّك، فيُطلق عَلَى الجنّ والإنس، قَالَ تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}، ثم فسّر النَّاس بالجنّ والإنس، فَقَالَ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}. انتهى (أَمْوَالَ نَاسٍ وَدِمَاءَهُمْ، فَادْعُهَا) أي المرأة المدَّعَى عليها، حَتَّى تحلف أنها ما جرحت صاحبتها (وَاتْلُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةَ) أي اقرأ هذه الآية عَلَى المرأة قبل أن تتوجّه إلى اليمين؛ تذكيرًا لها بالوعيد عَلَى منْ يحلف كاذبًا ({إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ) أي قرأ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما الآية حَتَّى ختمها، وتمامها: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] (فَدَعَوْتَهُا، فَتَلَوْتُ عَلَيْهَا) أي قرأت عليها الآية (فَاعْتَرَفَتْ بذَلِكَ) أي بكونها جنت عَلَى صاحبتها، يعني أنها لَمّا سمعت الوعيد المذكور فِي الآية الكريمة لمن حلف كاذبًا اتّعظت، فتركت الحلف، واعترفت بجنايتها (فَسَرَّهُ) أي فأفرح ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما ذلك؛ حيث اعترفت المرأة خوفًا منْ العقاب المترتّب عَلَى يمينها كاذبة لو حلفت. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه