إلى أربعة أحاديث: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيّات"، وقوله: "منْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وقوله: "الحلال بيّن، والحرام بيّن"، وقوله: "لا يكون المرء مؤمنًا حَتَّى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه"، وروي مكان هَذَا "ازهد فِي الدنيا يحبّك الله" الْحَدِيث، قَالَ: وَقَدْ نظم هَذَا أبو الحسن طاهر بن مفوز فِي بيتين، فَقَالَ [منْ الخفيف]:
عُمْدَةُ الدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ ... مُسْنَدَاتْ منْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّة
اترُكِ الْمُشْبَهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ مَا ... لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلَنَّ بِنِيَّة
وَقَالَ فِي "الفتح": ما حاصله: وَقَدْ عظم العلماء أمر هَذَا الْحَدِيث، فعَدُّوه رابع أربعة، تدور عليها الأحكام، كما نُقل عن أبي داود، وفيه البيتان المشهوران، قَالَ: والمعروف عن أبي داود، عَدُّ "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه" الْحَدِيث، بدل "ازهد فيما فِي أيدي النَّاس"، وجعله بعضهم ثالثَ ثلاثة، حذف الثاني، وأشار ابن العربي إلى أنه يُمكن أن ينتزع منه وحده، جميع الأحكام، قَالَ القرطبيّ: لأنه اشتمل عَلَى التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه. والله المستعان. انتهى ما قاله فِي "الفتح" 1/ 176.
وَقَالَ المازريّ: وإنما نبّه أهل العلم عَلَى عظم هَذَا الْحَدِيث؛ لأن الإنسان إنما يعبد بطهارة قلبه وجسمه، فأكثر المذامّ المحظورات إنما تنبعث منْ القلب، وأشار -صلى الله عليه وسلم- لإصلاحه، ونبّه عَلَى أن إصلاحه هو إصلاح الجسم، وأنه الأصل، وهذا صحيح، يؤمن به حتّى منْ لا يؤمن بالشرع، وَقَدْ نصّ عليه الفلاسفة، والأطبّاء، والأحكام، والعبادات آلة يتصرّف الإنسان عليها بقلبه وجسمه فيها، يقع فِي مشكلات، وأمور ملتبسات، تكسب التساهل فيها، وتعويد النفس الجراءة عليها، وتكسب فساد الدين والعرض، فنبّه -صلى الله عليه وسلم- عَلَى توقّي هذه، وضرب لها مثلاً محسوسًا؛ لتكون النفس له أشدّ تصوّرًا، والعقل أعظم قبولاً، فأخبر أن الملوك لهم أحمية، وكانت العرب تعرف فِي الجاهليّة أن العزيز فيهم يحمي مُرُوجًا، وأفنيةً، ولا يتجاسر عليها، ولا يدنو منها أحدٌ مهابةً منْ سطوته، وخوفًا منْ الوقوع فِي حوزته، وهكذا محارم الله سبحانه وتعالى منْ ترك منها ما قرب، فهو منْ توسطها أبعد، ومن تحامى طرف النهي أُمن عليه أن يتوسّط، ومن قرب توسّط. انتهى.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى بعد ذكر نحو ما تقدّم فِي كلام القاضي وغيره: ما نصّه: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة رحمهم الله أجمعين حسنٌ، غير أنهم لو أمعنوا النظر فِي هَذَا الْحَدِيث كلّه منْ أوّله إلى آخره لوجدوه متضمّنًا لعلوم الشريعة كلّها، ظاهرها وباطنها، وان أردت الوقوف عَلَى ذلك، فأعد النظر فيما عقدناه منْ الجمل فِي الحلال