أرخى العنان لنفسه فيها، جرّه ذلك إلى التجاوز إلى الحرام، فليتّق الله تعالى عند الشبهات، ليسهل عليه البد عن المحرّمات، وإلا وقع فِي المهلكات. (ومنها): ضرب المثل لإيضاح الأحكام. (ومنها): أن منْ وقع فِي الشبهات، فقد عرّض دينه، وعرضه للطعن. (ومنها): أن فيه تقسيمَ الأحكام إلى ثلاثة أشياء، وهو صحيحٌ؛ لأن الشيء إما أن يُنصّ عَلَى طلبه مع الوعيد عَلَى تركه، أو يُنصّ عَلَى تركه، مع الوعيد عَلَى فعله، أو لا ينصّ عَلَى واحد منهما، فالأول الحلال البيّن، والثاني الحرام البيّن، فمعنى قوله: "الحلال بيّن": أي لا يحتاج إلى بيانه، ويشترك فِي معرفته كلّ أحد. والثالث: مشتبه؛ لخفائه، فلا يُدرى هل هو حلالٌ، أو حرامٌ، وما كَانَ هَذَا سبيله يبغي اجتنابه؛ لأنه إن كَانَ فِي نفس الأمر حرامًا، فقد برىء منْ تبعتها، وإن كَانَ حلالاً، فقد أُجر عَلَى تركها بهذا القصد؛ لأن الأصل فِي الأشياء مختلف فيه حظرًا، واباحةً، والأولان قد يردان جميعًا، فإن عُلم المتأخّر منهما، وإلا فهو منْ حيّز القسم الثالث. قاله فِي "الفتح" 5/ 8 "كتاب البيوع" رقم 2051. (ومنها): أن فيه دليلاً عَلَى جواز الجرح والتعديل، قاله البغويّ فِي "شرح السنّة". (ومنها): أن بعضهم استنبط منه منع إطلاق الحلال والحرام عَلَى ما لا نصّ فيه؛ لأنه منْ جملة ما لم يستبن. لكن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يعلمها كثير منْ النَّاس" يُشعر بأن منهم منْ يعلمها". قاله فِي "الفتح" 5/ 9. "كتاب البيوع". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما قاله أهل العلم منْ التنويه بشأن هَذَا الْحَدِيث:

قَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: أجمع العلماء عَلَى عظم وقع هَذَا الْحَدِيث، وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام، قَالَ جماعة: هو ثلث الإِسلام، وإن الإِسلام يدور عليه، وعلى حديث "الأعمال بالنيّات"، وحديث "لا يؤمن أحدكم حَتَّى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه"، وقيل: حديث: "ازهد فِي الدنيا يُحبّك الله، وازهد فيما فِي أيدي النَّاس يحبّك النَّاس"، قَالَ العلماء: وسبب عظم موقعه أنه -صلى الله عليه وسلم- نبّه فيه عَلَى إصلاح المطعم، والمشرب، والملبس، وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات، فإنه سبب لحماية دينه وعرضه، وحذّر منْ مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بيّن أهمّ الأمور، وهو مراعاة القلب، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن فِي الجسد مضغة" الخ، فبيّن -صلى الله عليه وسلم- أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه. انتهى "شرح مسلم" 11/ 29.

وَقَالَ القاضي عياض رحمه الله تعالى: رُوي عن أبي داود السجستانيّ، قَالَ: كتبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسمائة ألف حديث، الثابت منها أربعة آلاف حديث، وهي ترجع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015