العُمُوم، لَكِنْ فِيهِ نَظَر؛ لِأنَّهُ مُطْلَقٌ يَصْدُق بِصُورةٍ، فَإِذا قام الدَّلِيل عَلَى صُورَة مُعَيَّنَة، حُمِلَ عَليْهَا.
وَاسْتَشْكَلَ ابْن دَقِيق الْعِيد، إِلْحَاق غير الذُّبَاب بِهِ فِي الْحُكم الْمَذْكُور، بِطَرِيقٍ آخَر، فَقَالَ: وَرَدَ النَّصّ فِي الذُّباب، فعدَّوْهُ إِلى كُلّ مَا لا نَفْس لهُ سَائِلة، وفِيهِ نَظَر؛ لِجَوازِ أَنْ تكُون العِلَّة فِي الذُّباب قَاصِرة، وهِي عُمُوم البَلْوى، وهذِهِ مُسْتَنْبطة، أو التَّعْلِيل بِـ "إنَّ فِي أَحَد جناحيهِ داء، وفِي الآخَر شِفَاء"، وهذِهِ مَنْصُوصة، وهَذَانِ المَعْنيَانِ لا يُوجَدانِ فِي غيره، فَيَبعُد كوْن العِلَّة مُجَرَّد كوْنه لَا دَم لهُ سَائِل، بل الَّذِي يظهر أنَّهُ جُزْء عِلَّة، لا عِلَّة كَامِلة. انْتَهَى.
وَقَدْ رجَّحَ جَمَاعَة منْ المُتَأخِّرِين أنَّ مَا يَعُمّ وُقُوعه فِي الْمَاء، كَالذُّبَابِ، والْبَعُوض لا يُنجِّس الْمَاء، وَمَا لا يَعُمّ كالْعَقَارِب يُنْجِّس، وهُو قَوِيّ.
(ومنها): ما قاله الخَطَّابيُّ رحمه الله تعالى: تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيث منْ لا خَلاق لهُ، فَقَالَ: كَيْف يَجْتَمِع الشِّفَاء والدَّاء فِي جَنَاحَي الذُّبَاب؟ وكَيْف يَعْلَم ذَلِكَ منْ نَفْسه، حَتَّى يُقدِّم جَنَاح الشِّفاء، وما ألْجَأهُ إِلى ذَلِكَ؟ قَالَ: وهَذا سُؤَال جَاهِلٍ، أو مُتَجَاهِلٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِن الْحَيَوان، قَدْ جَمَع الصِّفَات المُتَضادَّة. وَقَدْ ألَّف الله بينها، وقَهَرهَا عَلَى الاجْتِماع، وَجَعل مِنْهَا قُوَى الْحَيوانِ، وإِنَّ الَّذِي ألْهَمَ النَّحْلة اتِّخَاذ الْبَيْت الْعَجِيب الصَّنْعَة؛ لِلتَّعْسِيلِ فِيهِ، وألْهَم النَّملة أَنْ تدَّخِر قُوتَها أَوَان حَاجَتهَا، وَأَنْ تَكْسِر الْحَبَّة نِصْفَيْنِ، لِئلَّا تَسْتَنبِت، لَقَادِرٌ عَلَى إِلْهَام الذُّبَابة أنْ تُقدِّم جَنَاحًا، وتُؤَخِّر آخَر.
وَقَالَ ابن الْجَوْزِيّ: ما نُقِلَ عَنْ هَذَا الْقَائِل، ليْسَ بِعَجِيب، فإِنَّ النَّحْلة تُعَسِّل منْ أعْلاهَا، وتُلْقِي السُّمّ منْ أسْفلَها، والْحَيَّةُ الْقَاتِلُ سُمُّها تُدْخَل لُحُومُها فِي التِّرْيَاق الَّذِي يُعَالَج بِهِ السُّمّ، والذُّبَابةُ تُسْحَقُ مع الإِثْمِد لِجَلاءِ البَصَر.
وَذَكَر بَعْض حُذَّاق الأطِبَّاء، أنَّ فِي الذُّبَاب قُوَّةً سُمِّيَّةً يدُلّ عَلَيْهَا الْوَرَمُ، والْحَكَّة الْعَارِضَة عَن لَسْعه، وَهِيَ بِمَنْزِلةِ السِّلاح لهُ، فَإِذَا سَقَط الذُّباب فِيمَا يُؤْذِيه، تلَقَّاهُ بِسِلاحِهِ، فَأمَر الشَّارعُ أن يُقابِل تِلك السُّمِّيِّة، بِمَا أوْدعهُ الله تعالى فِي الجَنَاح الآخَر مِن الشِّفاء، فتَتَقَابل المَادَّتَانِ، فيزُول الضَّرَر بِإِذْنِ الله تعالى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: ومن الملاحدة الذين طعنوا فِي هَذَا الحديث، بل تعدّاه إلى الطعن فِي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه راويه محمود أبو ريّة فِي كتاب سمّاه "أضواء عَلَى السنّة المحمّدية"، وهو أحقّ بأن يُسمّى "ظلمات عَلَى السنّة" وَقَدْ قام بردّ ضلالاته العلّامة الفهّامة الدّرّاكة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلّميّ فِي كتابه "الأنوار الكاشفة"، فَقَالَ فيه: وقع إليّ كتاب جمعه أبو ريّة، فطالعته، وتدبّرته، فوجدته جمعًا،