حاذقًا، ولولا ذلك لم يُولّه النبيّ - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - الإمارة، ولو كان فوّض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصّاه به، حيث قال له، ولمعاذ: "يسّرا، ولا تُعسّرا، وبشّرا، ولا تُنفّرا، وتطاوعا"، ولذلك اعتمد عليه عمر، ثم عثمان، ثم عليّ. وأما الخوارج، والروافض، فطعنوا فيه، ونسبوه إلى الغفلة، وعدم الفطنة؛ لما صدر منه في التحكيم بصِفِّين. قال ابن العربيّ وغيره: والحقّ أنه لم يصدُر منه ما يقتضي وصفه بذلك، وغاية ما وقع منه أن اجتهاده أدّاه إلى أن يجعل الأمر شُورَى بين من بقي من أكابر الصحابة من أهل بدر، ونحوهم، لما شاهد من الاختلاف الشديد بين الطائفتين بصفّين، وآل الأمر إلى ما آل إليه. قاله في "الفتح" (?).
(ثُمَّ أَرْسَلَ مُعَاذَ بْنَ جَبَل) بن عمرو بن أوس الأنصاريّ الخزرجي، من أعيان الصحابة، شهد بدرًا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - بالشام سنة (18) على المشهور، وتقدّمت ترجمته في 42/ 587 (بَعْدَ ذلِك) هذا نصّ في كون بعثه بعد أبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى - عهما، وظاهر رواية البخاريّ تقتضي أنهما أُرسلا معًا، ولفظه من طريق عبد الملك بن عُمير، عن أبي بردة، قال: بعث رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعث كلّ واحد منهما على مِخْلاف (?)، قال: واليمن مخلافان، ثم قال: "يسرا، ولا تعسرا، وبَشِّرا، ولا تنفّرا"، فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما، إذا سار في أرضه، كان قريبا من صاحبه، أحدث به عهدا، فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه، قريبًا من صاحبه أبي موسى، فجاء يسير على بغلته، حتى انتهى إليه، وإذا هو جالس، وقد اجتمع إليه الناس، وإذا رجل عنده، قد جُمِعت يداه إلى عنقه، فقال له معاذ: يا عبد اللَّه بن قيس، أَيُّمَ هذا؟ قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه، قال: لا أنزل حتى يُقتَل، قال: إنما جيء به لذلك، فأنزل، قال: ما أنزل حتى يُقتل، فأمر به، فقُتِل، ثم نزل، فقال: يا عبد اللَّه، كيف تقرأ القرآن؟ قال: أَتَفَوَّقُه تَفَوُّقًا، قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم، وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب اللَّه لي، فأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي.
وفي رواية للبخاري في "كتاب استتابة المرتدّين": "ثم أتبعه معاذ بن جبل"، فقال في "الفتح": ظاهره أنه ألحقه به بعد أن توجّه، قال: لكن تقدّم في "المغازي" بلفظ: "بعث