خصوصًا يمتنعون من أكل ذبيحتنا، وهم الذين حين تحوّلت القبلة شنّعوا بقولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، أي صلّوا صلاتنا، وتركوا المنازعة في أمر القبلة، والامتناع عن أكل الذبيحة؛ لأنه من عطف الخاصّ على العامّ، فلما ذكر الصلاة عطف ما كان الكلام فيه، وما هو مهتمّ بشأنه عليها، كما أنه يجب عليهم أيضًا عند الدخول في الإسلام أن يقرّوا ببطلان ما يُخالفون به المسلمين في الاعتقاد بعد إقرارهم بالشهادة. انتهى (?).
وفائدة عطف الصلاة، واستقبال القبلة، وأكل الذبيحة على الشهادتين، بيان تحقيق القول بالفعل، وتأكيد أمره، فكأنه قال: إذا قالوها، وحقّقوا معناها بموافقة الفعل لها، تكون محرّمة لدمائهم، وأموالهم، وإنما خُصَّت هذه الثلاثة من بين سائر الأركان، وواجبات الدين، لكونها أظهرها، وأعظمها، وأسرعها علمًا بها، إذ في اليوم الأول من الملاقاة مع الشخص يُعلم صلاته، وطعامه غالبًا، بخلاف نحو الصوم، فإنه لا يظهر الامتياز بيننا وبينهم منه، ونحو الحجّ، فإنه قد يتأخّر إلى شهور، وسنين، وقد لا يجب عليه أصلاً. (?).
(فَقَد حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ، وَأَمْوَالُهُمْ) وفي رواية للبخاريّ، من طريق منصور بن سعد، عن ميمون بن سياهٍ، عن أنس بن مالك - رضي اللَّه عنه -، قال: قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "من صَلَى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، الذي له ذمة اللَّه، وذمة رسوله، فلا تُخفِروا اللَّه في ذمته".
وقوله: "ذمّة اللَّه" أي أمانته، وعهده. وقوله: "فلا تُخفروا اللَّه" بضمّ أوله رباعيًّا: أي لا تَغدروا، يقال: أخفرت: إذا غدرتَ، وخَفَرتُ: إذا حَمَيتَ، ويقال: إن الهمزة في أخفرت للإزالة: أي تركتُ حمايته.
وقوله: (فلا تُخفروا اللَّه في ذمّته، أي ولا رسوله، وحُذف لدلالة السياق عليه، أو لاستلزام المذكورِ المحذوفَ. قاله في "الفتح" (?).
(إِلَّا بِحَقِّهَا) أي إلا بحقّ الدماء والأموال، كأن يقتل معصوم الدم بغير حقّ، أو يأخذ مال غيره ظلمًا. وزاد في رواية البخاريّ: "وحسابهم على اللَّه": أي حساب سرائرهم على اللَّه سبحانه وتعالى، وكلمة "على" بمعنى اللام، أو المعنى على التشبيه، أي هو كالواجب عليه تعالى في تحقّق وقوعه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع،