مصالحهم، وهذه مصلحة قاصرة، وتضرّر المزارع أكثر، وأكثر، ونظر الشارع واسعٌ، فإنه يراعي مصالح عموم المسلمين، لا المصحلة القاصرة على بعض الأفراد، ولهذا نهى عن مثل هذه المعاملات الظالمة، حيث كانت المنفعة، منفعة جزئيّة خاصّة بربّ الأرض؛ حيث اختصّ بخيار الزرع، وما يَسعَدُ منه بالماء، وما على أَقْبال الجداول، فهذه هي المنفعة التي تخيّلوها، وبمقابلها المضرّة البحتة على المزارع، فعدالة الشارع الحكيم اقتضت النهي عن ذلك، ونظير ذلك في باب الربا المنفعة التي يختصّ بها المرابي من أخذه الزيادة، مع تضرّر المأخوذ منه، فنهى الشارع عنها؛ لأن الشارع لا يبيح لأحد منفعة يترتّب عليها مضرّة إخوانه، فقد قال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لا تحاسدوا, ولا تناجشوا, ولا تباغضوا, ولا تدابروا, ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يَخذُله، ولا يحقره ... " الحديث، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -.
فلذلك لَمّا أدرك ذلك الصحابيّ غنى أن المنفعة التي يراها الشارع منفعة محقّقة لكلا الجانبين، بخلاف المنفعة التي كانون يظنّونها فإنها منفعة قاصرة، قال: (وطاعة رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - خير لكم". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: "أو ليدَعْها": أي ليترك زرعها, وليُهملها. [فإن قيل]: كيف يأمر النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - بإهمالها، وهو تضييع لمنفعتها، فيكون من إضاعة المال، وقد ثبت النهي عنه؟.
[وأجيب]: يحمل النهي على إضاعة عين المال، أو منفعة لا تُخلَف؛ والأرض إذا تُركت بغير زرع لم تتعطّل منفعتها، فإنها قد تنبت من الكلإ، والحطب، والحشيش ما ينفع في الرعي وغيره، مثل منفعة الزراعة، بل قد يكون الانتفاع بهذا أكثر من الانتفاع بالزراعة، كما هو مشاهدٌ في بعض البلدان، أو بعض الأحيان. وعلى تقدير أن لا يحصل ذلك، فقد يكون تأخير الزرع عن الأرض إصلاحًا لها، كما يفعله كثير من الناس الخبراء بشؤون الزراعة قصدًا، فقد تُخلِف في السنة التي تليها أكثر مما فات في سنة الترك، وهذا كلّه إن حُمل النهي عن الكراء على عمومه، فأما لو حُمل الكراء على ما كان مألوفًا لهم من الكراء بجزء مما يخرج منها, ولا سيّما إذا كان غير معلوم، فلا يستلزم ذلك تعطيل الانتفاع بها في الزراعة، بل يُكريها بالذهب، أو الفضّة، كما تقرّر ذلك (?).
والحديث صحيح، كما سبق القول فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع،