إليه إلا عند تعذّر العمل بالنصّ، وهنا لا تعذّر، بل يحمل على أحد المحامل التي ذكرها هو أو غيره، كما فعل هو هنا في حديث جابر، وزيد بن ثابت - رضي اللَّه عنهما - حيث قال:
وأما حديث جابر - رضي اللَّه عنه - في النهي عن المخابرة، فيجب حمله على أحد الوجوه التي حُمل عليها خبر رافع، فإنه قد روى حديث خيبر أيضًا، فيجب الجمع بين حديثيه مهما أمكن، ثم لو حُمل على المزارعة لكان منسوخًا بقصّة خيبر؛ لاستحالة نسخها، كما ذكرنا، وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت - رضي اللَّه عنه -.
قال؛ فإن قال أصحاب الشافعيّ: تحُمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل، وأحاديث النهي على الأرض البيضاء؛ جمعًا بينهما. قلنا: هذا بعيد لوجوه خمسة:
[أحدها]: أنه يبعُدُ أن تكون بلدةٌ كبيرةٌ يأتي منها أربعون ألف وسق، ليس فيها أرض بيضاء، ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض، فينقل الرواة كلهم القصّة على العموم من غير تفصيل، مع الحاجة إليه.
[الثاني]: أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه، وما ذكرناه دلّ عليه بعض الروايات، وفسّره الراوي بما ذكرناه، وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث، والجمع بينهما يحمل بعضها على ما فسّره راويه به أولى من التحكّم بما لا دليل عليه
[الثالث]: أن قولهم يُفضي إلى تقييد كلّ واحد من الحديثين، وما ذكرناه حملٌ لأحدهما وحده.
[الرابع]: أن فيما ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين، وأهليهم، وفقهاء الصحابة، وهم أعلم بحديث رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وسنّته، ومعانيها، وهو أولى من قول من خالفهم.
[الخامس]: أن ما ذهبنا إليه مُجمَعٌ عليه، فإن أبا جعفر روى ذلك عن أهل كلّ بيت بالمدينة، وعن الخلفاء الأربعة، وأهليهم، وفقهاء الصحابة، واستمرار ذلك، وهذا مما لا يجوز خفاؤه، ولم يُنكره من الصحابة منكِرٌ، فكان إجماعًا، وما رُوي في مخالفته، فقد بيّنّا فساده، فيكون هذا إجماعًا من الصحابة - رضي اللَّه عنهم -، لا يسوغ لأحد خلافه.
والقياس يقتضيه، فإن الأرض عينٌ تُنمّى بالعمل فيها، فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها، كالأثمان في المضاربة، والنخل في المساقاة، أو نقول: أرضٌ، فجازت المزارعة عليها، كالأرض بين النخيل، ولأن الحاجة داعيةٌ إلى المزارعة؛ لأن أصحاب الأرض قد لا يقدرون على زرعها، والعمل عليها، والأكَرَةُ يحتاجون إلى الزرع، ولا أَرْضَ لهم، فاقتضت حكمة الشرع جواز المزارعة، كما قلنا في المضاربة، والمساقات، بل الحاجة ههنا آكد؛ لأن الحاجة إلى الزرع آكد منها إلى غيره؛ لكونه مُقتاتًا, ولكون الأرض لا يُنتفع بها إلا بالعمل عليها، بخلاف المال، ويدلّ على ذلك