والخطّ، ولو لم يقترن ذلك بالشهادة. وخصّ أحمد، ومحمد بن نصر من الشافعيّة ذلك بالوصيّة؛ لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام. وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذُكرت لما فيها من ضبط المشهود به، قالوا: ومعنى "وصيّته مكتوبة عنده" أي بشرطها. وقال المحبّ الطبريّ: إضمار الإشهاد فيه بُعْدٌ. وأجيب بأنهم استدلّوا على اشتراط الإشهاد بأمر خارج، كقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} الآية [المائدة: 106]، فإنه يدلّ على اعتبار الإشهاد في الوصيّة.
وقال القرطبّي: ذكر الكتابة مبالغةٌ في زيادة التوثّق، وإلا فالوصيّة المشهود بها متّفقٌ عليها، ولو لم تكن مكتوبة. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): أنه استُدلّ بقوله أيضًا: "وصيته مكتوبة عنده" على أن الوصية تنفذ، وإن كانت عند صاحبها، ولم يجعلها عند غيره، وكذلك إن جعلها عند غيره، وارتجعها.
(ومنها): أن فيه منقبةً لابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -؛ لمبادرته لامتثال قول الشارع، ومواظبته عليه. (ومنها): أن فيه الندبَ إلى التأهّب للموت، والاحتراز قبل الفوت؛ لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت؛ لأنه ما من سنّ يفرض إلا وقد مات فيه جمعٌ جمّ، وكلّ واحد بعينه جائزٌ أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهّبًا لذلك، فيكتب وصيّته، ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر، ويُحبط عنه الوزر، من حقوق اللَّه تعالى، وحقوق عباده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوصيّة:
قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: لا تجب الوصيّة إلا على من عليه دينٌ، أو عنده وديعةٌ، أو عليه واجبٌ يوصي بالخروج منه؛ فإن اللَّه تعالى فرض أداء الأمانات، وطريقه في هذا الباب الوصيّة، فتكون مفروضة عليه، فأما الوصيّة بجزء من ماله، فليست بواجبة على أحد، في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبيّ، والنخعيّ، والثوريّ، ومالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وغيرهم. وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أن الوصيّة غير واجبة، إلا على من عليه حقوق بغير بيّنة، وأمانة بغير إشهاد، إلا طائفة شذّت، فأوجبتها. روي عن الزهريّ أنه قال: جعل اللَّه الوصيّة حقًّا مما قلّ، أو كثُر. وقيل لأبي مِجْلَز: على كلّ ميت وصيّةٌ؟ قال: إن ترك خيرًا. وقال أبو بكر عبد العزيز: هي واجبةٌ للأقربين الذين لا يرثون. وهو قول داود. وحُكي ذلك عن مسروق، وطاوس، وإياس، وقتادة، وابن جرير. واحتجّوا بالآية، وخبر ابن عمر، وقالوا: نُسخت الوصيّة للوالدين والأقربين الوارثين، وبقيت فيمن لا يرث من الأقربين.
واحتجّ الأولون بأن أكثر أصحاب رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - لم يُنقل عنهم وصيّةٌ، ولم يُنقل لذلك