قال: "أول صدقة -أي موقوفة- كانت في الإسلام صدقة عمر". وروى عمر بن شبّة، عن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: "سألنا عن أول حبس في الإسلام، فقال المهاجرون: صدقة عمر، وقال الأنصار: صدقة رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - "، وفي إسناده الواقديّ. وفي "مغازي الواقديّ" أن أول صدقة موقوفة، كانت في الإسلام أراضي مُخيريق -بالمعجمة، مصغّرًا - التي أوصى بها للنبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فوقفها النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -.
قال الترمذيّ: لا نعلم بين الصحابة، والمتقدّمين، من أهل العلم، خلافًا في جواز وقف الأرضين. وجاء عن شُريح أنه أنكر الحبس، ومنهم من تأوّله. وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه، إلا زفر بن الهذيل، فحكى الطحاويّ، عن عيسى بن أبان، قال: كان أبو يوسف يُجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر هذا، فقال: من سمع هذا من ابن عون؟، فحدّثه به ابن عُليّة، فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به، فرجع عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد انتهى. ومع حكايته الطحاويّ هذا، فقد انتصر كعادته، فقال: قوله في قصّة عمر: "حبّس الأصل، وسبّل الثمرة" لا يستلزم التأبيد، بل يحتمل أن يكون أراد مدّة اختياره لذلك انتهى. ولا يخفى ضعف هذا التأويل، ولا يُفهم من قوله: "وقفت، وحبست" إلا التأبيد، حتى يصرح بالشرط عند من يذهب إليه، وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها: "حبيسٌ ما دامت السماوات والأرض".
قال القرطبيّ: ردّ الوقف مخالف للإجماع، فلا يُلتفت إليه، وأحسن ما يُعتذر به عمن ردّه ما قاله أبو يوسف، فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيره.
وأشار الشافعيّ إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام، أي وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهليّة، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة تقطع تصرّف الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به، وتثبت صرف منفعته في جهة خير. قاله في "الفتح" (?).
وقال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم": ما حاصله: حديث عمر - رضي اللَّه عنه - دليلٌ للجمهور على جواز الحُبْس، وصحّته، وردٌّ على من شَذَّ، وَمَنَعَهُ، وهذا خلافٌ لا يُلتفت إليه، فإن قائله خَرَقَ إجماع المسلمين في المساجد، والسقايات، إذ لا خلاف في ذلك. وهو أيضًا حجة للجمهور على قولهم: إن الْحُبْس لازم، وإن لم يقترن به حكم حاكم، وخالف في ذلك أبو حنيفة، وزُفر، فقالا: لا يلزم، وهو عطيّةٌ