الحامل لا تحيض في الغالب، فبحيضها عُلم براءة رحمها، والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فإن الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها، وإذا تمادى أمد الحمل، وقَوِي الولد انقطع دمها، ولذلك تمتدح العرب يحمل نسائهم في حالة الطهر، وقد مدحت عائشة رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - بقول الشاعر [من الكامل]:
ومُبرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةِ وَدَاءِ مُغْيَلِ
يعني أن أمه لم تحمل به في بقيّة حيضها. فهذا ما للعلماء، وأهل اللسان في تأويل القرء.
وقالوا: قرأت المرأة قرءًا: إذا حاضت، أو طهرت، وقرأت أيضًا: إذا حملت. واتفقوا على أن القرء الوقت، فإذا قلت: والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة أوقات، صارت الآية مفسَّرَةٌ في العدد، محتمِلَةٌ في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها، فدليلنا قول اللَّه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر، فيجب أن يكون هو المعتبر في العدّة، فإنه قال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يعني وقتًا تعتدّ به، ثم قال تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} يريد ما تعتدّ به المطلّقة، وهو الطهر الذي تطلّق فيه. وقال - صلى اللَّه عليه وسلم - لعمر - رضي اللَّه عنه -: "مره، فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فتلك العدّة التي أمر اللَّه أن تُطلّق لها النساء". أخرجه مسلم وغيره.
وهو نصّ في أن زمن الطهر هو الذي يسمّى عدّة، وهو الذي تُطلّق فيه النساء، ولا خلاف أن من طلّق في حال الحيض لم تعتدّ بذلك الحيض، ومن طلّق في حال الطهر، فإنها تعتدّ عند الجمهور بذلك الطهر، فكان ذلك أولى. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- (?).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن أرجح الأقوال في المعنى المراد من القرء في قول -عَزَّ وَجَلَّ-: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} قول من قال: إنها الطهر، لا الحيضُ، وإن كان اللفظ يُطلق عليهما جميعًا، كما تقدّم بيانه عن أهل اللغة، إلا أن المراد في هذه الآية هو الطهر؛ بدليل توضيح النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - ذلك في حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور، فبيانه أوضح بيان، وأتمّه، حيث إن اللَّه سبحانه وتعالى وكل بيان معنى كتابه إليه، بقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية. ولقد أجاد العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في بيان الأقوال المذكورة في معنى القرء، وأدلتها، وترجيح أنه الطهر بأدلة كثيرة في كتابه الممتع "زاد المعاد" بما لا تجده مجموعًا عند