النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - أربع قضيّات"، فذكر نحو حديث عائشة، وزاد: "وأمرها أن تعتدّ عدّة الحرّة". أخرجه الدارقطنيّ. وهذه الزيادة لم تقع في حديث عائشة، فلذلك اقتصرت على ثلاث، لكن أخرج ابن ماجه من طريق الثوريّ، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: "أُمرت بَريرة أن تعتدّ بثلاث حِيَض". وهذا مثلُ حديث ابن عباس في قوله: "تعتدّ عدّة الحرّة"، ويُخالف ما وقع في رواية أُخرى عن ابن عباس: "تعتدّ بحيضة". وسيأتي البحث في عدّة المختلعة، وأن من قال: الخلع فسخٌ، قال: تعتدّ بحيضة، وهنا ليس اختيار العتيقة نفسها طلاقًا، فكان القياس أن تعتدّ بحيضة، لكن الحديث الذي أخرجه ابن ماجه على شرط الشيخين، بل هو في أعلى درجات الصحّة. وقد أخرج أبو يعلى، والبيهقيّ من طريق أبي معشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "أنّ النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - جعل عدّة بريرة عدّة المطلّقة"، وهو شاهدٌ قويّ؛ لأن أبا معشر، وإن كان فيه ضعفٌ، لكن يصلح في المتابعات. وأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة، عن عثمان، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وآخرين: "أنّ الأمة إذا أُعتقت تحت العبد، فطلاقها طلاق عبد، وعدّتها عدّة حرّة".
وقد صنّف العلماء في قصّة بريرة تصانيف، وإنّ بعضهم أوصلها إلى أربعمائة فائدة، ولا يُخالف ذلك قول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "ثلاث سُنن"؛ لأن مراد عائشة ما وقع من الأحكام فيها مقصودًا خاصّةً، لكن لمّا كان كلّ حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يَستنبط العالم الفطن منها فوائد جمّة وقع التكثير من هذه الحيثيّة، وانضمّ إلى ذلك ما وقع في سياق القصّة غير مقصود، فإن في ذلك أيضًا فوائد تؤخذ بطريق التنصيص، أو الاستنباط، أو اقتصر على الثلاث، أو الأربع؛ لكونها أظهر ما فيها، وما عداها إنما يؤخذ بطريق الاستنباط، أو لأنها أهمّ، والحاجة إليها أمسّ.
قال القاضي عياضٌ: معنى "ثلاث"، أو "أربع" أنها شرعت في قصّتها، وما يظهر فيها مما سوى ذلك، فكان قد عُلم من غير قصّتها. وهذا أولى من قول من قال: ليس في كلام عائشة حصرٌ، ومفهوم العدد ليس بحجّة، وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي لا تدفع سؤال ما الحكمة في الاقتصار على ذلك؟. قاله في "الفتح" (?).