ومنهم: من يجعل ذلك تعبّدًا؛ لما فيه من ثبوت العبادات، وهذا قول من لا يصحّحه إلا بالعربيّة، من أصحابنا وغيرهم، وهذا ضعيف لوجوه:
[أحدها]: لا نسلّم أن ما سوى هذين كناية، بل ثَمَّ ألفاظ هي حقائق عرفيّة في العقد أبلغ من لفظ "أنكحت"، فإن هذا اللفظ مشترك بين الوطء والعقد، ولفظ الإملاك خاصّ بالعقد، لا يُفهم إذا قال القائل: أملك فلانٌ على فلانة إلا العقد، كما في "الصحيحين": "أملكتكها على ما معك من القرآن"، سواء كانت الرواية باللفظ، أو المعنى.
[الثاني]: أنا لا نسلّم أن الكناية تفتقر إلى النيّة مطلقًا، بل إذا قُرن بها لفظ من ألفاظ الصريح، أو حكم من أحكام العقد كانت صريحةً، كما قالوا في الوقف: إنه ينعقد بالكناية، كتصدّقت، وحرمت، وأبّدت، إذا قُرن بها لفظ، أو حكم، فإذا قال: أملكتكها، فقال: قبلت هذا التزويج، أو أعطيتكها زوجةً، فقال: قبلت، أو أملكتكها على ما أمر اللَّه به من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، ونحو ذلك، فقد قُرِن بها من الألفاظ، والأحكام ما يجعله صريحًا.
[الثالث]: أن إضافة ذلك إلى الحرّة يبيّن المعنى، فإنه إذا قال في ابنته: ملّكتكها، أو أعطيتكها، أو زوّجتكها، ونحو ذلك، فالمحلّ يَنفي الإجمال، والاشتراك.
[الرابع]: أن هذا منقوضٌ عليهم بالشهادة في الرجعة، فإنها مشروعةٌ، إما واجبة، وإما مستحبّةٌ، وهي شرط في صحّة الرجعة على قولٍ، وبالشهادة على البيع، وسائر العقود، فإن ذلك مشروع مطلقًا، سواء كان العقد بصريح، أو كناية مفسّرة.
[الخامس]: أن الشهادة تصحّ على العقد، ويثبت بها عند الحاكم على أيّ صورة انعقدت، فعُلم أن اعتبار الشهادة فيه، لا يمنع ذلك.
[السادس]: أن العاقدين يمكنهما تفسير مرادهما، ويشهد الشهود على ما فسّروه.
[السابع]: أن الكناية عندنا إذا اقترن بها دلالة الحال كانت صريحة في الظاهر بلا نزاع، ومعلوم أن اجتماع الناس، وتقديم الخطبة، وذكر المهر، والمفاوضة فيه، والتحدّث بأمر النكاح قاطع في إرادة النكاح. وأما التعبّد فيحتاج إلى دليل شرعيّ. ثم العقد جنسٌ لا يشرع فيه التعبّد بالألفاظ؛ لأنها لا يُشترط فيها الإيمان، بل تصحّ من الكافر، وما يصحّ من الكافر لا تعبّد فيه. واللَّه أعلم انتهى كلام شيخ الإسلام -رحمه اللَّه تعالى- (?).