سعيد بن جُبير، قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟، قلت: لا، قال: فَتَزَوَّجْ، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء".

قيل: معناه: خير أمة محمد - صلى اللَّه عليه وسلم - من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل.

والظاهر-كما قال الحافظ- أن مراد ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - بالخير النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، وبالأمة أخصّاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك الزويج مرجوح، إذ لو كان راجحًا ما آثر النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - غيره، فقد كان - صلى اللَّه عليه وسلم - مع كونه أخشى للَّه تعالى، وأعلمهم به يُكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطلع عليها الرجال، ولإظهار المعجزة البالغة في خرق العادة؛ لكونه كان لا يجد ما يشبع به من القوت غالبًا، وإن وجد كان يؤثر بأكثره، ويصوم كثيرًا، ويواصل، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، ولا يُطاق ذلك إلا مع قوّة البدن، وقوّةُ البدن -كما سيأتي في شرح حديث ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - الآتي بعد باب- تابعة لما يقوم به من استعمال المقوّيات، من مأكول ومشروب، وهي عنده نادرة، أو معدومة.

وذكر في "الشفا" أن العرب تمدح بكثرة النكاح؛ لدلالته على الرجوليّة ... إلى أن قال: ولم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهنّ، وقيامه بحقوقهنّ، واكتسابه لهنّ، وهدايته إياهنّ، وكأنه أراد بالتحصين قصر طرفهنّ عليه، فلا يتطلّعن إلى غيره، بخلاف العزبة، فإن العفيفة تتطلّع بالطبع البشريّ إلى التزويج، وذلك هو الوصف اللائق بهنّ.

والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره - صلى اللَّه عليه وسلم - من النساء عشرة أوجه، تقدّمت الإشارة إلى بعضها:

(أحدها): أن يكثر من يُشاهد أحواله الباطنة، فينتفي عنه ما يظنّ به المشركون من أنه ساحر، أو غير ذلك. (ثانيها): لتتشرّف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم. (ثالثها): للزيادة في تألفهم لذلك. (رابعها): للزيادة في التكليف حيث كلّف أن لا يَشغلَه ما حُبب إليه منهنّ عن المبالغة في التبليغ. (خامسها): لتكثر عشيرته من جهة نسائه، فتزداد أعوانه على من يُحاربه. (سادسها): نقل الأحكام الشرعية التي لا يطّلع عليها الرجال؛ لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يُخفَى مثله. (سابعها): الاطلاع على

محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوّج أم حبيبة، وأبوها إذ ذاك يُعاديه، وصفيّة بعد قتل أبيها، وعمّها، وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خُلُقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحبّ إليهنّ من جميع أهلهنّ. (ثامنها): ما تقدّم مبسوطًا من خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلّل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال، وقد أمر من لم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015