واختلف العلماء في الجمع بينها، فذكر الإمام الجليل أبو عبد اللَّه الْحَلِيميّ الشافعيّ، عن شيخه الإمام العلامة المتقن أبي بكر القفّال الشاشيّ الكبير -وهو غير القفّال الصغير المروزيّ المذكور في كتب متأخّري أصحابنا الخراسانيين، قال الْحَلِيميّ: وكان القفّال أعلم من لقيته من علماء عصره- أنه جمع بينها بوجهين:
(أحدهما): أن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص، فإنه قد يقال: خير الأشياء كذا، ولا يراد به خير جميع الأشياء من جميع الوجوه، وفي جميع الأحوال، والأشخاص، بل في حال دون حال، أو نحو ذلك، واستشهد في ذلك بأخبار، منها عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - قال: "حجة لمن لم يحجّ أفضل من أربعين غزوة، وغزوة لمن حجّ أفضل من أربعين حجة" (?).
(الوجه الثاني): أنه يجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا، أو من خيرها، أو من خيركم من فعل كذا، فحذفت "من"، وهي مرادة، كما يقال: فلان أعقل الناس، وأفضلهم، ويراد أنه من أعقلهم، وأفضلهم.
ومن ذلك قول رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "خيركم خيركم لأهله"، ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقًا، ومن ذلك قولهم: أزهد الناس في العالم جيرانه، وقد يوجد في غيرهم من هو أزهد منهم فيه. هذا كلام القفّال -رحمه اللَّه تعالى-.
وعلى هذا الوجه الثاني يكون الإيمان أفضلها مطلقًا، والباقيات متساويةٌ في كونها من أفضل الأعمال والأحوال، ثم يعرف فضل بعضها على بعض بدلائل تدلّ عليها، وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.
[فإن قيل]: فقد جاء في بعض هذه الروايات أفضلها كذا، ثم كذا بحرف "ثمّ"، وهي موضوعة للترتيب.
[فالجواب]: أن "ثمّ" هنا للترتيب في الذكر، كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 12 - 17]، ومعلوم أنه ليس المراد هنا الترتيب في الفعل، وكما قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا} - إلى قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} الآية [الأنعام: 151]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} الآية [الأعراف: 11]. ونظائر