وقال الإسماعيلي: كثُر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال كلُّ مجتهدًا على حسب ما قُدِّر له، ومن أحسن ما حضرني وجهٌ لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يُغِيرون، وَيسْبون، ويَقتُلُون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرّمة، فمعنى الخبر أن الميت يُعذّب بذلك الذي يبكي عليه أهله به، لأن الميت يُندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذُكر، وهي زيادة ذنب من ذنوبه يستحقّ العذاب عليها.
خامسها: معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به، كما رَوَى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعًا: "الميت يعذّب ببكاء الحيّ، إذا قالت النائحة: واعضداه، واناصراه، واكاسياه، جُبِذَ الميتُ، وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها؟ "، ورواه ابن ماجه: "يُتَعْتَعُ (?) به، ويقال: أنت كذلك؟ "، وروه الترمذيّ بلفظ: "ما من ميت يموت، فتقوم نادبته، فتقول: واجبلاه، واسنداه، أو شبه ذلك من القول، إلا وُكل به ملكان يلهزانه (?)، أهكذا كنت؟ "، وشاهده ما رواه البخاريّ في "المغازي" من حديث النعمان بن بشير، قال: "أُغمِي على عبد اللَّه بن رواحة، فجعلت أخته تبكي، وتقول: واجلاه، واكذا، واكذا، فقال: حين أفاق: ما قلتِ شيئا إلا قيل لي: أنت كذلك؟ ".
سادسها: معنى التعذيب تَألُم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين، ورجحه ابن المرابط، وعياض، ومن تبعه، ونصره ابن تيمية، وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قيلة -بفتح القاف، وسكون التحتانية- بنت مخرمة -بفتح الميم، وسكون المعجمة- الثقفية - رضي اللَّه عنها -، قال: قلت: يا رسول اللَّه قد ولدته، فقاتل معك يوم الربَذَة، ثم أصابته الحمّى، فمات، ونزل عليّ البكاء، فقال رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا، وإذا مات استرجع، فوالذي نفس محمد بيده، إن أحدكم ليبكي، فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد اللَّه لا تعذّبوا موتاكم".
وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد، أخرجه ابن أبي خيثمة، وابن أبي شيبة، والطبراني، وغيرهم، وأخرج أبو داود، والترمذيّ أطرافًا منه. قال الطبريّ: ويؤيده ما قاله أبو هريرة: إن أعمال العباد تُعرَض على أقربائهم من موتاهم، ثم ساقه بإسناد صحيح إليه، وشاهده حديث النعمان بن بشير، مرفوعًا، أخرجه البخاريّ فى