صدم نفسي الصخب المعربد، وصدع رأسي الفضولي المستأسد، في حجرة مخثنقة الأنفاس، بازدحام الناس، يفعمها دخانا خمسون إنسانا، ويملأها ضجيجا خمسون لسانا، فخرجت أطلب لي في العزلة أمانا، فلم تتح لي إلا بعد جهد جهيد، وبحث شديد، إذ كلما جلست مجلسا ظننته منعزلا سقط علي فيه من لا يسعني طرده، ولا أرتاح إلى ظله.
وعندما ظفرت من الفراغ بلحظات محدودة، فوجئت بما ردني إلى صوابي، ونبهني إلى خطئي في ضيقي بالناس، وضجري بالضوضاء، لقد وجدت في العزلة ظلا من السكون، ولكنه من السكون الذي يحرك الشجون، فقد أتاح لي جو العزلة أن أفكر، وأتاح لي التفكير أن أعرف، ولكن معرفة ما ينغص علي عزلتي، ويضاعف قلقي، وإن هداني إلى الحقيقة المرة التي يجب أن أعرفها، ولو أقضت مضجعي، وشردت النوم عن عيني، وأطارت الهدوء من نفسي، عرفت تفاهة الحياة، وزيف الأحياء، وعرفت مع ذلك أنني مرغم على أن أحيا هذه الحياة مع هؤلاء الأحياء مرغم على أن أعود إلى الصخب الذي منه فررت، والفضول الذي به ضقتط وإذا وجد ما يحرر من هذا الرق، ويخلص من هذا السام، فهو الموت الذي يعالج الألم بالألم، وينسخ الوجود بالعدم، ويقدم بنا على عالم مجهول، يكتنفه غموض مهول، جعلنا نلج من الموت فرارا، ونرضى بالحياة اضطرارا، وهكذا خرجت من عزلتي القصيرة، بتجربة خطيرة تكون لي في فترات ضيقي بالحياة خير ذخيرة، وهي أن الحيا كل لا يتجزأ، ووحدة لا تتفرق، هي لقاح من خير وشر، ومزيج من حلو ومر، وأن من قضي عليه بأن يحيا هذه الحياة لا بد أن يبلو خيرها وشرها، ويذوق حلوها ومرها.
وإن الذي يحسب الحياة خيرا بلا شر، وحلوا بلا مر، لهو الذي جهل الحياة ولم يهتد فيها إلى سر، رحماك اللهم، ما أجل حكمتك، وأعظم قدرتك، وأسمى تدبيرك ...