كبيرة في ميدان الفكر والعقائد والثقافة والدعوة, وجعلها تنزوي وتنكمش، كما أن مناهج المدارس النظامية أخرجت علماء وقادة وساسة وقضاة، كان لهم تأثير كبير في الدولة الزنكية واستمر التأثير الفكري والعقائدى لعهد الأيوبيين والمماليك والعثمانيين على المستوى العقائدي للدول. إن الثمرة الحقيقية من دراسة التاريخ هي استخراج العبر واستلهام الدروس واستيعاب السنن ومن هذه الدروس والعبر:
أهمية المبادرة في حركة النهوض: ففي كثير من مراحل التاريخ وفي شتى المذاهب والأديان هناك مبادرات من رجال أخلصوا لمعتقداتهم وأفكارهم فكانت لها آثار كبيرة غيرت مجرى التاريخ، ففي عهد السلاجقة ظهرت مبادرة نظام الملك في تأسيس المدارس النظامية، فكان لهذه المبادرة أثر كبير في الانتصار السني على المد الباطني والمساهمة في تحجيمه وتقليصه، كما أسهمت في امداد الأمة بكوادر علمية وتربوية وسياسية وقيادية أسهمت في حركة الجهاد ومقاومة الصليبيين في العهد الزنكي والأيوبي, وفي المقابل كانت مبادرة أوربان الثاني في تقديمه مشروعًا صليبيًا جمع طاقات غرب أوربا وقذف بها نحو المشرق؛ فنظام الملك كانت له مبادرة مع رؤية نهوض ومشروع حضاري، كما أن البابا كانت له مبادرة ومشروع استعماري استيطاني وتصارع المشروعان حوالي مائتى عام وانتصر المشروع الإسلامي على المشروع الغربي والمغولي والفضل لله تعالى ثم لمبادرة نظام الملك والإمام الغزالي وقادة حركة الجهاد كالأمير مودود وعماد الدين ونور الدين وصلاح الدين والظاهر بيبرس وقطز والناصر بن قلاوون والعز بن عبد السلام وابن تيمية وغيرهم كثير ..
والمسلمون الآن لا تنقصهم إمكانات مادية ولا معنوية ولا خيارات وإنما قيادات حكيمة تستوعب فقه المبادرة كي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع وتوجهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة، فمجتمعاتنا غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم والقوى المادية، ويأتي دور القيادة الربانية التي تحسن فقه المبادرة لتربط بين كل الخيوط والخطوط، والتنسيق بين المواهب والطاقات، وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها، وفق رؤية نهوض شاملة تتحدى كل العوائق وتسد كل الثغرات التي تحتاجها الأمة في النهوض وتبث روح الأمل والتفاؤل في أوساط الناس، وتحضهم على التمسك بعقيدتهم وقيمهم ومبادئهم والترفع على حطام الدنيا وإحياء معاني التضحية، وشحذ الهمم، وتقوية العزائم في نفوس النخب والجمهور العريض في الأمة، وتأخذ بها رويداً نحو الأهداف المرسومة لمشروع النهوض, وعلينا أن نتذكر قول الله تعالى: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104].