أنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن وعن أن يأتوا بمثله، لأنه معجز في نفسه، لكن لأن أدخل عليهم العجز عنه، وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله، وكان حالهم على الجملة حال من أعدم العلم بشيء قد كان يعلمه، وحيل بينه وبين أمر قد كان يتّسع له، لكان ينبغي أن لا يتعاظمهم، ولا يكون منهم ما يدلّ على إكبارهم أمره، وتعجّبهم منه، وعلى أنّه قد بهرهم، وعظم كل العظم عندهم، بل كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم والتّعجّب للذي دخل من العجز عليهم، ورأوه من تغيّر حالهم، ومن أن حيل بينهم وبين شيء قد كان عليهم سهلا، وأن سدّ دونه باب كان لهم مفتوحا، أرأيت لو أن نبيّا قال لقومه: «إنّ آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة، وتمنعون كلّكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رءوسكم»، وكان الأمر كما قال، ممّ يكون تعجّب القوم، أمن وضعه يده على رأسه، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رءوسهم؟.

ونعود إلى النّسق فنقول: فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء ممّا عدّدناه، لم يبق إلّا أن يكون في «النّظم»، لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إلا «النظم» و «الاستعارة»، ولا يمكن أن تجعل «الاستعارة» الأصل في الإعجاز وأن يقصر عليها، لأن ذلك يؤدّي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السّور الطوال مخصوصة، وإذا امتنع ذلك فيها، ثبت أن «النظم»، مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه. وإذا ثبت أنه في «النظم»، و «التأليف»، وكنّا قد علمنا أن ليس «النّظم» شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأنّا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها، وجامعا يجمع شملها ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض، غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها، طلبنا ما كلّ محال دونه، فقد بان وظهر أنّ المتعاطي القول في «النظم»، والزاعم أنّه يحاول بيان المزيّة فيه، وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدّمنا ذكرها، ولا يسلك إليه المسالك التي نهجناها، في عمياء من أمره، وفي غرور من نفسه، وفي خداع من الأماني والأضاليل. ذاك لأنه إذا كان لا يكون «النّظم» شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، كان من أعجب العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب المزيّة في «النظم»، ثم لا يطلبها في معاني النحو وأحكامه التي «النّظم» عبارة عن توخّيها فيما بين الكلم.

فإن قيل: قولك «إلا النظم»، يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، وذلك ما لا مساغ له.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015