638 - وإذا قَدْ عَرَفْتَ أنه لا يُتصوَّر الخبرُ إِلاّ فيما بينَ شيئين: مخبرٍ به ومخبرٍ عنه، فينبغي أن تعلم أنهُ يحتاجُ مِنْ بَعد هذين إِلى ثالثٍ، وذلك أنه كما لا يتصوَّر أن يكونَ ههنا خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به وَمُخبرٌ عنه، كذلك لا يتصور حتى يكونَ له مُخبِرٌ يصدرُ عنه ويحصلُ من جهته، وتعودُ التَّبعةُ فيه عليه، فيكونَ هو الموصوفَ بالصدق إِن كان صدقاً، وبالكَذِب إِن كان كذبًا. أفلا ترى أن من المعلوم ضرورة أنه لا يكون إِثباتٌ ونفيٌ، حتى يكونَ مثبتٌ ونافٍ يكون مصدرُهما من جهته، ويكون هو المُزْجِيَ لهما، والمبرِمَ والناقِضَ فيهما، ويكونَ بهما موافقًا ومخالفًا، ومصيبًا ومخطئًا، ومسيئًا ومحسنًا1.
"الخبر" وجميع معاني الكلام، معانٍ يُنْشئُها الإنسانُ في نفسِه:
639 - وجملة الأمر أن الخبر وجميع معماني الكلامِ معانٍ ينشِئُها الإِنسانُ في نفسهِ، ويُصرِّفها في فكره2، ويناجي بها قلبه، ويارجع فيها عقلَه، وتوصَفُ بأنَّها مقاصدُ وأغراضٌ. وأعظمُها شأناً الخَبرُ، فهو الذي يُتصوَّر بالصُوَرِ الكثيرة، وتقع فيه الصناعات العجيبة، وفيه تكون المزايا التي بها يقعُ التفاضلُ في الفصاحَةِ على ما شرحنا3.
640 - ثم إنا نظرنا في المعنى التي يَصفُها العقلاءُ بأنها معانٍ مستنْبَطة، ولطائفْ مستخْرَجةٌ، ويجعلون لها اخْتِصاصاً بقائلٍ دونَ قائلٍ، كمثل قولهم في معاني أبيات من الشعر4: "إنه معنىً لم يُسْبَق إليه فلان، وأنه الذي فطن له.