فاستحسنْتَه، لم تَشُكَّ بحالِ أنَّ ذلك لم يَكُنْ لأمرٍ يرجعُ إِلى اللفظِ، ولكنْ لأنَّكَ رأيت الفائدة ضعفت في الول، وقويَتْ في الثاني. وذلك أنكَ رأيتَ أبا تمام لم يَزِدْكَ بمذهب ومذهب، على أنْ أسْمَعَكَ حُروفاً مكرَّرة لا تجدُ لها فائدة إِن وُجدتْ، إِلاّ متكلَّفة متمحَّلة، ورأيتَ الآخَر قد أعادَ عليك اللفظةَ كأنَّه يَخدَعُكَ عَنِ الفائدة وقد أعطاها، ويُوهِمُكَ أنه لم يَزِدْك وقد أحْسَن الزيادةَ ووفَّاها. ولهذهِ النكتةِ كانَ التجنيسُ، وخصوصاً المستوفَى منه، مثلَ "نجا" و "نجا"، من حِلى الشعر. والقولُ فيما يَحْسنُ وفيما لا يَحْسُنُ من التجنيسِ والسجعِ يَطولُ، ولم يكنْ غَرضُنا من ذكْرِهما شَرْحَ أمرهما1، ولكنْ توكيدَ ما انتهى بنا القولُ إِليه مِن استحالةِ أن يكونَ الإعجازُ في مجرَّد السهولةِ وسلامةِ الألفاظِ مما يَثقُلُ على السان.
611 - وجملة المر، أنَّا ما رأينا في الدنيا عاقلاً اطَّرَحَ النظْمَ والمحاسِنَ التي هو السببُ فيها من "الاستعارة" و "الكناية" و "التمثيل"، وضروب "المجاز" و "الإيجاز"، وصدَّ بوجهه عنْ جَميعِها، وجعلَ الفَضْلَ كلَّه والمزيةَ أجمَعها في سلامَةِ الحروفِ مما يَثْقُلُ. كيفَ؟ وهو يؤدِّي إِلى السُّخْفِ والخُروجِ من العقْلِ كما بيَّنَّا.
612 - واعلمْ أنه قد آنَ لنا نعودَ إِلى ما هو الأمْرُ الأعظَمُ والغَرضُ الأهَمُ، والذي كأنه هو الطَّلِبة، وكلُّ ما عَداهُ ذرائعُ إِليه. وهو المَرامُ، وما سواهُ أسبابٌ للتسلُّق عليه، وهو بيانُ العِلل التي لها وَجَبَ أن يكونَ لِنظْمٍ مزيةٌ على نظم، وأن يعظم أمر التفاضل فيه وتيناهى إِلى الغاياتِ البعيدةِ2. ونحنُ نسألُ الله تعالى العون على ذلك، والتوفيق له والهداية له.