وبعد. فإنَّا إذا تصفَّحْنا الفضائلَ لنَعرفَ منازلَها في الشَّرف، ونتبيَّنَ مواقعها مِن العِظَم، ونَعلم: أيٌّ أحقٌّ منها بالتقديم، وأسبقُ في استيجاب التعظيم، وجَدْنا العلمَ أولاها بذلك، أَولاها بذلك، وأوَّلُها هنالك؛ إذ لا شَرفَ إلاَّ وهو السبيل إليه، ولا خيرَ إلاَّ وهو الدليل عليه، ولا مَنْقَبةَ إلاَّ وهو ذُروتها وسَنامها، ولا مفخرةً إلاَّ وبه صحَّتُها وتمَامُها، ولا حسنةَ إلاَّ وهو مفتاحها، ولا مَحْمَدةَ إلاَّ ومنه يَتقدُ مصباحُها. هو الوفيُّ إذا خان كلُّ صاحب؛ والثقةُ إذا لم يُوثَق بناصح؛ لولاه لَما بان الإنسانُ من سائر الحيوان إلاَّ بتخطيط صورته، وهيأة جسمه وبُنيته؛ لا ولا وجَدَ إلى اكتساب الفضل طريقاً، ولا وجَد بشيء من المحاسن خليقاً؛ ذاك لأنَّا وإنْ كنَّا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إِلا بالفعل، وكان لا يكونُ فعْلٌ إلاَّ بالقدرة، فإنَّا لم نر فعلاً، زانَ فاعِلَه، وأوجبَ الفضلَ له، حتى يكونَ عن العلم صَدرُهُ، وحتى يتبيَّن مِيسمه عليه وأَثَره؛ ولم نر قدرةً قطُّ كَسبتْ صاحبها مَجْداً، وأفادتْه حَمْداً، دون أن يكون العلمُ رائدَها فيما تَطْلُب، وقائدَها حيث تَؤمُّ وتَذْهب، ويكُونَ المُصرِّفَ لعِنَانها، والمقلِّبَ لها في ميدانها، فهي إذن مفتقِرة في أن تكون فضيلةً إليه، وعيالٌ في استحقاق هذا الاسم عليه. وإذا هي خلت من العلم أو أبَتْ أن تمتثل أمْرَه، وتقتفي رسْمَه، آلتْ ولا شيءَ أحْشدُ للذم على صاحبها منها ولا شيءَ أَشْينُ من إعماله لها.