أما الكتاب، فيعرف مكانَتَه مَنْ يَعرف معنى البلاغة، وسرَّ تسمية هذا الفن "بالمعاني". وأما من يجهل هذا السر، ويحسب أنَّ البلاغة صناعة لفظية محضة، قِوامها انتقاءُ الألفاظ الرقيقة أو الكلمات الضخمة الغريبة، فمثل هذا يعالَج بهذا الكتاب. فإن اهتدى به إلى كون البلاغة ملكة روحية وأريحية نفسية رُجيَ أن يبرأ من علَّته، ويقف على مكانة الكتاب ورتبته؛ وإن بقيَ على ضلاله القديمه وجَهْلِه المقيم، فاحْكُمْ بإعضال دائه، وتعذُّر شفائه. إنما وُضعَ الكلامُ لإفادة المعاني. والبلاغةُ فيه هي أن تَبلغ به ما تُريد من نَفْس المخاطَب، من إقناع وترغيب وترهيب، وتشويق، وتعجيب، أو إدخال سرور أو حزن أو غير ذلك وكلُّ هذه المقاصد أمور روحانية، يُتَوصل إليها بالكلام. فمعرفة قوانين النحو والمعاني والبيان شَرْطٌ فيها، ولكنها غير كافية للوصول إليها، بل لا بدّ من الهداية إلى أسباب كون الكلام مؤثِّراً، وإيراد الشواهد والأمثلة الكثيرة في المعنى الواحد، والموازنة بين الكلامين يتفقان في المعنى، ويختلفان في التأثير، كقول المُعبِّر الأول لذلك الملكِ الذي رأى في نومه أنه فقدَ جميع أسنانه، أَنَّ جميعِ أهلِكَ وذوي قرباك يَهلِكون؛ وقولِ المعبِّر الثاني له: الملك يكون أَطولَ أهلهِ عُمراً. وهذا المذهب هو الذي ذهبَ إليه الإمام عبد القاهر في كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة). وقد خلَفَ من بعده خلَفٌ جعلوا البلاغة صناعةً لفظية محْضة، فقالوا: الُمسْنَد يُعرَّف لكذا وكذا، ويُنكَّر لكذا وكذا الخ. ولم يُبَيِّنوا السرَّ في ذلك، ولم يوازنوا بين مسند منكرٍ عرفتْهُ البلاغة، وآخرُ أنكرتُه وهو مثله، ويبينوا السبب في ذلك؛ ولم يُعْنوا بإيراد الشواهد والأمثلة والبحث في الفروق. وقد اختار أهل هذه الأزمنة الأخيرة، هذه الكتب المجْدِبة القاحلة، على مِثْل كتب عبد القاهر الخصبة الحافلة، لكثرة الحدود والرسوم والقواعد والمشاغبات في كتب المتأخرين؛ فكان أثرها فيهم أن حُرِموا من البلاغة والفصاحة، حتى إنَّ أعلَمَهم بهذه الكتب، وأكثرَهُم اشتغالاً بها، هم أعياهم وأعجزُهم عن الإتيان بالكلام البليغ (بل والصحيح) قولاً وكتابة.
ولا غرو، فقد قال أحد كبار مؤلفي هذه الكتب المشهورة: إن بعض فحول هذا الفن (البلاغة) ليسوا بلغاء!! ففَصلَ بين البلاغة وعِلْمها، وجعله غير مؤدِّ إليها؛ فلم يبق إلا أنه ابتُدعِ لِيُتَعبَّدَ به. ولولا أَنْ قيَّض اللهُ للعربية، في هذا العصر، أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فطفقَ يُحْيى كتبَ السلف النافعة، وعلومهم، لَكُنَّا في يأس من حياة هذه اللغة الشريفة، بعدما قضى عليها حَفَظَتُها وأُساتها.
نسأل الله تعالى أنْ يمدَّ في أيامه، ويُكثر من أنصاره وأعْوانه. آمين.