ولئن ابتدأ بعلم البيان، فلأنه محطة رئيسة للارتقاء إلى بديع البدائع ورائعة الروائع: عنيت: النظم القرآني، الذي تنوعت السُّبلُ الموصلةُ إليه وشُحذت الذائقةُ الأدبية في استجلاء منارات الإبداع الشعري ومحارات لطائف العربية، حيث أمكن الغوص إليها والتقاطها، حتى في أبسط الأمثلة النحوية المبثوثة في أعطاف هذا الكتاب.
ومن علم البيان وتخبُّطِ الناس، إلى ما سمَّاه القرآن "عمى القلوب" وقد اعتمده الجرجاني في ذمِّ الناس الذين يفهمون الكلام على ظاهره ولا ينفذون إلى ما وراء ذلك، ولا سيما أصحاب التفسير الذين وقفوا أمام بعض الألفاظ والجمل وقوف من لا يفقه بقلبه ويرى ببصيرته؛ كأن ليس لهم قلب ولا بصر ولا عقل يتدبرون به ويتفكرون في حقيقة الأشياء، فاستحقوا وصفه لهم "بأهل الحشْو ومن لا يعرف مخارج الكلام".
لقد تمادى بعض المفسِّرين في غيِّهم وجهالتهم، فوقفوا عند حدود المعنى الظاهرِ لكلِم الآي الحكيم، فوقعوا وأوقعوا قراءهم بمفاهيم بدائية تخطتها الأديان السماوية بأشواط بعيدة، فأفسدوا المعنى، وأبطلوا الغرض الذي من أجله نزل الوحي الإلهي. فكان له معهم هذه الوقفة الزاجرة:
"ومن عادة قومٍ ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن توهموا أبداً في الألفاظ الموضوّعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها، فُيُفسدوا المعنى بذلك، ويُبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسَهم والسامعَ منهم العلمَ بموضع البلاغة وبمكان الشرف. وناهيكَ بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل! هناكَ تَرى ما شئتَ من باب جهلٍ قد فتحوه، وزنْدِ ضلالةٍ قد قدحوا به".