من أهم ما توصل إليه القارئ، وهو يتابع الجرجاني أن هذا الأخير، قد عانى من الجهل المنتشر في بيئته وعصره، بجمال العربية وبلاغة أفانين القول فيها. فرأيناه دائماً يخاطب قارئاً مجهولاً ويحثه على العلم والمعرفة والدراية والتأمل .. حتى إذا أحس بدوام الغباء والجهل، وكمَّ كبير من سوقيَّة الذوقِ وغفلةٍ مترامية الأطراف، اعتراه الشعور الشديد بالحزن والنقمة، وصل حدَّ التقريع والتألم.
فهو منذ الصفحات الأولى من كتابه الخارق، الذي وُضع لغاية كبرى هي تبيان عظمة النظم القرآني، قد استهلَّ الكتاب بتصدير الفضل والشرف للعلم بعامة، ثم لعلم البيان بخاصة، كما لو أراد أن يدخل في معالجة موضوعه، من أجمل الأبواب وأشرفها. علماً بأن البيان قد استخدمه بدلالته العامة التي حضَّ عليها وشرحها القرآنُ المجيد لا بمدلوله الاصطلاحي.
ونبدأ معه قراءة سفْر المعاناة، من هذه التوطئة فنجده، في الصفحة الأولى قد شكا من الإهمال الشديد الذي لقيه هذا العلْم، والحيْفِ والضيم اللذين مُنيَ بهما؛ أضف إلى ذلك (الاعتقادات الفاسدة، والظنون الرديئة، والجهل العظيم المتفشِّي والخطأ الفاحش المرتكب)، من جراء اقتصار الناس منه على حفظ المبادئ العامة والمعلومات العريضة وبعض القواعد الصرفية والنحوية الإعرابية التي تحفظ اللسان من اللحن .. غير عابئين بما هو خَلْقٌ وإبداع منظَّم، يتخطى العلوم النظرية المرسومة في الكتب والمعاجم، إلى "دقائق وأسرارٍ طريقُ العلم بها الرؤيَّةُ والفكرُ، ولطائفَ مستقاها العلمُ، وخصائصِ معانِ ينفردُ بها قومٌ قد هُدُوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكُشِف لهم عنها، ورفعت الحُجُب بينهم وبينها، وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجبَ أن يفضُلَ بعضه بعضاً، وأن يبعدَ الشأوُ في ذلك، وتمتدَّ الغاية، ويعلو المرتقى ويعزَّ المطلبُ. حتى ينتهي الأمرُ إلى الإعجاز، وإلى أن يخرج من طوق البشر".