إنه من محصلة القراءة والتأمل في طبيعة النص وخصوصية التعبير فيه، سواء أكان مُريحاً أم مُتْعباً. وفي اعتقادي، أنَّ السبب في الاحتفاء يعود إلى حرص المؤلف على تخليص خطابه من أي أثر أو عائق يُعيق توصيلَ النظرية إلى قراء جيلة ومن يليهم من الأجيال، ليس بنقل هذه النظرية بأوضح ما يكون من اللغة والأداء فحسْب، بل بجعل اللغة التي تتولَّى النقل والترجمة، نموذجاً فنياً بلاغياً يُحتذى؛ كونُ هذه اللغة قد راعت الأصول ونهلتْ من قبس القرآن، الكثير من سحره البياني ووضوح الأفكار وتتابُعها العقلاني.

ومع ذلك فقد بالغ الجرجاني في استعمال هذه الحروف، وبخاصة (أنْ) الناصبة المؤولة، حتى لنجدُه يحشدها حشداً في الصفحة الواحدة، وأحياناً في الجملة الواحدة، كقوله في مطلع فصل (القول في التقديم والتأخير):

"ولا تزال ترى شِعراً يروقك مسْمَعُه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أَنْ راقكَ ولطفَ عندك أن قُدِّم فيه شيءٌ وحُوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان".

ألم يكن أخفَّ لفظاً وأسوغ تعبيراً، لو قال: (فتجدُ سببَ إعجابك به ولطفه عندك، تقديم شيء فيه وتحويل اللفظ)؟

وقوله، في الفصل نفسه، في معرض اهتمام الناس بالمُهمِّ والأهم، فيقدِّمونه في الكلام، كهذا المثال المعبِّر: "قَتَلَ الخارجيَّ زيدٌ" ولا يقول: (قتلَ زيدٌ الخارجيَّ) لأنه يعلم أنْ ليس للناس في أنْ يعملوا أنَّ القاتل له زيدٌ، جدوى وفائدة .. "

لاحظ تتابع حرفَيْ النصب والمشبه بالفعل في جملة واحدة لها سياق معنوي واحد هو: (يهمُّ الناس معرفة مقتل الخارجي لكثرة فساده. ولا يهمهم من قتله وكيف) كما يمكن صياغة الجملة على الوجه الآتي تفادياً لثقل تكرار (أَنْ) مرتين و (يعلم) مرتين:

(لأنه يَعْلم أنْ ليس للناس فائدة من معرفة القاتل) .. لكنه الأسلوب الجرجاني لا مناصَ من قبوله والنسج على منواله في كثير من المواضع والحالات التي تتطلب دقة في القصد ونصوعاً في أداء الفكرة.

وقوله، وفي نهاية هذا القول هيئةُ التباسٍ لتداخل أغراض الكلام بين الجمل، ما جاء في فصل: (تقديم النكرة على الفعل وعكسه):

طور بواسطة نورين ميديا © 2015