وكان من المركوز في الطباع والراسخ في غرائز العقول، أنه متى أُريد الدلالة على معْنى، فتُرك أن يُصرَّحَ به ويُذْكَر باللفظ الذي هو له في اللغة، وعُمد إلى معنى آخر فأُشير به إليه، وجُعل دليلاً عليه، كان للكلام بذلك حسْنٌ ومزية لا يكونان إذا لم يُصنَع ذلك وذُكر بلفظه صريحاً".
وإذا كان ما قدَّمتُ من شواهد الانشغاف بالمجهول وصيغه، مسألة جارية في نثر القدماء ومخاطباتهم، فإنني أرى له انشغافاً حقيقياً باستخدام الفعل المضارع للمجهول "يُتصوَّر" بصورة لافتة تومئ بانشداد خاص لها، لا يكاد يفتر لسانه عن استعمالها مراراً أو تكراراً في الفصل الواحد، والفقرة الواحدة، والصفحة الواحدة. وما على القارئ إلاَّ القراءة والمتابعة ... ومما انتقيتُه من الأمثلة الساطعة، كلامُه في: (الإسناد وتحقيق معنى الخبر) في فضْل (التفاضل في نظم الكلام) وكذلك في (الخبر والمُخْبَر به) من الفصل نفسه، ما لا يسع القارئ إلاَّ الحيرة والذهول من كثرة ما ردَّدَ وأسرف في استعمال الصيغة المذكورة، حيث بلغ تعداد هذا الاستعمال، في صفحتين متتاليتين: عشر مرات، ما عدا الصيغة التي تؤدي مؤداها "يُعْقَل" و "يُعْرف" "ويقدَّر".
* استخدام (أنْ) المصدرية و (إنَّ وأَنَّ وكأَنَّ) بصورة غالبة
بقدر ما شاعتْ عنده صيغ البناء للمجهول، وبخاصة صيغة المضارع "يُتصوَّر"، شاع أيضاً ورُود الحروف المذكورة في عنوان الفقرة، وبنسبة تفوق سابقتها أحياناً كثيرة، تجعل القارئ يتساءل بنفس الحيرة والذهول: لماذا هذا الاحتفاء بـ (أنْ) الناصبة و (إنَّ وأنَّ وكأنَّ) وما هي إلاَّ حروفُ وصْل ووسائطُ تعبير يؤتى بها لضرورات بلاغية شبه محدَّدة، ووفقاً لأحوال ومقتضياتٍ دقيقة؟؟
قد يُفهم خطأً أنني ألْفِتُ إلى غلَط لغوي وقع فيه الجرجاني أو إلى هشاشة شابتْ أسلوبه. حاشاه من ذلك، وحاشاي أن أقوم بهذه اللفتة أو المحاسبة!