وضبط الصدر مُجْمَعٌ عليه، وأما ضبط الكتاب فخالف في قبول الرواية به بعض الأئمة الكبار كأبي حنيفة ومالك (?) - رَحِمَهُمَا اللهُ -، والجمهور على قبول رواية من روى من كتابه بشرط التحفُّظ عليه.
فإذا اجتمع في الراوي هذه الشروط كان أهلاً لقبول روايته، وليس من شك في أنَّ مَنْ توفَّرت فيه هذه الشروط ترجَّح ترجُّحاً قويّاً صدقه على جانب كذبه، بل مَنْ اطَّلع على منهج المُحَدِّثِينَ في النقد وطريقتهم في التعديل والتجريح ومُبالغتهم في التحري عن معرفة حقيقة الراوي وطويَّة نفسه، والأخذ بالظنَّة والتُّهمة في رَدِّ مروياته، يكاد يجزم بأنَّ تجويز الكذب على الراوي المستجمع لهذه الشروط أمر فَرَضِيٌّ واحتمالٌ عقليٌّ، وهذه الحقيقة قد تبدو لبعض مَنْ لَمْ يدرس كتب الرجال والنقد عند المُحَدِّثِينَ فيها شيء من المُغالاة ولكن الحق ما ذكرتُ، ومن أبعد النجعة في كتب القوم عرف، ومن عرف اعترف.
وكذلك بعد اشتراطهم للضبط - على المعنى الذي قدَّمناهُ - يكون احتمال الغلط أو الخطأ في روايته احتمالاً بعيداً، وقد رَدُّوا رواية من كثر غلطه وغفلته وساء حفظه، وكذا من تساوى صوابه وغلطه واعتبروا حديثه مُنكراً، ومن ثَمَّ نرى أنَّ المُحَدِّثِينَ احتاطوا غاية الاحتياط في الرواية، ولم يأخذوا إِلاَّ عن العدل الفطن اليقظ، ونبذوا أحاديث المُغَفَّلِينَ والغالطين وأصحاب الأوهام، ولم يتسامحوا إِلاَّ في الغلط أو الغفلة النَّادِرَيْنِ اللَّذَيْنِ لا يسلم منها غالب البشر (?) وكم من رجل من أهل الديانة والأمانة ولكنه في نظرهم ليس أهلاً للرواية، وإليك بعضاً مِمَّا رُوِيَ عنهم في هذا.
صَحَّ عن ابن سيرين أنه قال: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» وهذا هو إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رَحِمَهُ اللهُ - يقول: «لَقََدْ أَدْرَكْنَا فِي هَذَا الْمَسْجِد سَبْعِينَ مِمَّنْ يَقُولُونَ: قَالَ فُلاَنٌ: قَالَ رَسُولُ