ذلكم أيضًا هو ما عبر عنه القرآن بألفاظه الخاصة، حين صور حال الكافرين بين أمرين، فقال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 1؟ فها هو ذا مبدأ الطرف الثالث المستبعد من الأخلاق قد استبان ووضح، إذ ليس وراء أمر العقل وقيادته قاعدة أخرى -سائغة- للسلوك، فهو وحده إذن السلطة الشرعية.

في هذه الظروف نستطيع أن نقول مع "كانت": إننا مشرعون ورعايا في آن، وإن التجربة الأخلاقية للندم لتؤكد هذا الازدواج، فنحن عندما نقصر في واجبنا نحسّ أننا قد هبطنا إلى مستوى غير خليق بنا، ونعترف ضمنًا بأننا مخلوق نبيل قد زلَّ؛ ولا يزال القرآن يوقظ فينا هذا الشعور بكرامتنا الأصلية، ويؤصله، فهو لا يقرر فقط أن الله كرم الإنسان، وبسط سلطانه على الأرض، وعلى البحار: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 2, ولم يقتصر فضل الله سبحانه على أن أمر الملائكة أن تسجد أمام أبينا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} 3، وهي درجة رفيعة، كثيرًا ما يذكرنا القرآن بها في مثل قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} 4. ليس هذا فحسب، ولكنّا، إذا ما نحينا جانبًا تلك الإشارات الخارجية إلى الكرامة الإنسانية، وإذا ما وقفنا أمام القيمة الأخلاقية فإنه يبدو لنا أن القرآن لا ينظر إلى الطبيعة الإنسانية على أنها شريرة في أصلها، ولا على أنها فاسدة فسادًا عضالًا، بل على العكس من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015