الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن اعتزال الشر درجات: الدرجة الأولى: اعتزال الشر نفسه، بألا يأتيه المسلم، وأعظم الشر: هو الشرك بالله عز وجل بأنواعه المختلفة التي هي ظلمات بعضها فوق بعض، والمعاصي من الكبائر الظاهرة والباطنة، والبدع الكبيرة والصغيرة، كل ذلك يعتزله المؤمن ويبتعد عنه، فيتوب إلى الله عز وجل من ذلك، وهذا الذي أمر الله سبحانه وتعالى به لما قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فالتوبة إلى الله هي: ترك الشر واعتزاله؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة: (الهجرة أن تهجر ما نهاك الله عنه)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: فالهجرة أن تهجر السوء وتتركه فلا تفعله، وألا تعاون عليه، وألا تشارك فيه، وألا تكون جندياً من جنود الشر.
الدرجة الثانية: اعتزال أهل الشر، بألا يجلس معهم وهم يخوضون فيه حتى ولو لم يشاركهم، فإن الله عز وجل يقول في كتابه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140]، وقال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، فلا يجوز للإنسان أن يشهد الشر إلا بغرض شرعي صحيح كأن ينكر عليهم، فإما أن يزول عنه، وإما أن يزيله، أو يسعى في إزالته، فأما من كان باقياً في مكان الشر ساكتاً عنه فهو من أهل الشر وإن زعم أنه لم يرتكبه؛ فإن الإنسان المسلم لا يجوز له أن يبقى في بلاد يُجهر فيها بمعاصي الله، ويسب فيها السلف.
كما قال الإمام مالك: لا يحل لأحد أن يبقى في أرض يسب فيها السلف، فكيف إذا كان يسب فيها دين الله، أو يسب فيها الله سبحانه، ويستهزأ بآياته، ويسخر من العقائد التي أنزلها في كتابه، وجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقائد الغيب، فلا يجوز أن يقيم الإنسان مع أهل الشر إلا أن يكون له غرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، فإن وجد أنه لا فائدة لدين الله في بقائه معهم فليرحل عنهم وليعتزلهم، وإن لم يجد إلا أن يعتزل في الصحاري والجبال، فهذا خير له من أن يكون مقيماً للأكل والشرب وسط أهل الباطل والضلال ساكتاً على شرهم، راضياً بدنياهم.
فلا بد أن يترك الإنسان أصدقاء وقرناء السوء، فلا يصاحبهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وقال عز وجل: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فالواجب على المؤمن أن يبحث عن قرناء الخير، ويعتزل قرناء الشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك - أي: يعطيك مجاناً- وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيباً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)، فإن لم يجد الإنسان بداً من أن يكون مع أهل السوء، فإما أن يأمرهم وينهاهم، وإما أن يهاجر في سبيل الله، وكما تهاجر نفسه يهاجر بدنه، ولا يجوز له أن يبقى معيناً على الباطل أو ساكتاً عنه، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
ولا بد للإنسان أن يكون واضحاً في انتمائه لأهل الخير، فيبتعد عن أهل الشر، ويتبرأ من أفعالهم، ويتبرأ منهم إذا بلغوا درجة الكفر والنفاق.