من الآلهة التي يعبدها الناس من دون الله وهم لا يشعرون: المال والجاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخمصية، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
وقوله: (انتكس) يعني: رجع إلى الحال السيئ الذي كان عليه، والتعاسة خبر أو دعاء، يعني: إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عنه وهذا الخبر صادق لا يخلف، أو أنه دعاء قد أجابه الله عز وجل، فدعا عليه بالتعاسة والانتكاس، وأنه إذا شيك -أي: إذا دخلت في قدمه أو في جسمه شوكة- فلا انتقش، يعني: لا أُخرجت بالمنقاش.
فما أشقى هذا العبد الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أخبر بتعاسته، من أجل أنه رضي لنفسه أن يكون خادماً لما خلق من أجله أصلاً؛ فإن المال واللباس والقطيفة والخميصة خلقت لأجل الإنسان، فإذا به يجعل نفسه خادماً لهذا الذي خلق من أجله؛ إذ إن المفروض أنه يكون خادماً لك، مسخراً لك، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13].
فالإنسان إذا صار المال والجاه وكلام الناس عنه في هيئته وثوبه وغير ذلك هو كل همه في هذه الدنيا فإنه يصبح من أجله يحب ويبغض، ويوالي ويعادي، ويطلبه من حلال أو حرام، وهذا من أعظم الآلهة التي تعبد في زماننا، وخصوصاً في نمط الحياة الغربية التي يراد للناس أن يقلدوها، فإن قضية المال هي من أعظم الأشياء عندهم، أو هي كل شيء عندهم، فبالمال تغير الأديان، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا يكثر في فتن آخر الزمان، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فالرسول عليه الصلاة والسلام بين أن الفتن التي ستأتي في آخر الزمن هي من هذا النوع، فأحدهم قد يبيع دينه بعرض من الدنيا.
فلا بد للدعاة إلى الله وأهل الحلم والدين أن ينتبهوا لهذا النوع، فإن الناس ممكن أن يحاربوا من بعيد اللات والعزى، وإن كانت معظم عبادة الناس ليس في اللات والعزى، مع أن الناس في الحقيقة مدفوعون دفعاً إلى أن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا، فأحدهم مستعد أن يكفر بالله لو أعطي مالاً، أو أعطي منصباً، ومستعد لأن يترك ما أمره الله عز وجل به من الولاء والبراء وكل الدين بسبب أنه يخاف على منصبه أو يخاف على مركزه أو يخاف على ماله أن يضيع، والعياذ بالله! فلابد من الانتباه لهذه الفتنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يبيع دينه بعرض من الدنيا)، فلابد للإنسان أن ينتبه لهذه الفتنة المقبلة، فقد أصبح الإنسان في هذا الزمان من أجل المال يحب، ومن أجله يبغض، ومن أجله يوالي ويعادي، ويطلبه من حلال أو حرام، ولو طلبوا دينه ثمناً لعرض منها لكان أسرع شيء إلى البيع بالثمن البخس، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وهو مع ذلك لا يناله من الدنيا إلا ما كتب له، كما في الحديث الصحيح: (من أصبح والدنيا نيته، فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة نيته، جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه ابن حبان في الصحيح، وابن ماجة، والطبراني بإسناد لا بأس به.
وفي الحديث القدسي: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً).
ولذلك نقول: إن طبيعة العمل التي تستغرق وقت الإنسان وعمره تجعله غير متفرغ لكي يبذل شيئاً في سبيل الله؛ فلا يجد وقتاً لعبادة الله وذكره، ولا يجد وقتاً للدعوة إلى الله، ولا يجد وقتاً للتعلم والتعليم ونشر الخير، وهذه علامة أكيدة على أن القلب بعيد عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال: (يا ابن آدم! لا تباعد مني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً)، فتجده دائماً ويداه مشغولة.
وقد يقول قائل: الناس كلهم الآن أشغالهم تستهلك اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وأكثر من اثنتي عشرة ساعة، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل يبين أن هذا سبب البعد عن الله.
فلو أن القلب قريب من الله فإنه سبحانه يفتح لعبده من حيث لا يحتسب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فلابد للإنسان من أن يجعل الهم هماً واحداً، وليس معنى ذلك أن يقول: نترك العمل، ونجلس في المسجد.
فهذا كلام غير صحيح، وإنما المطلوب أن تكون همة الناس همة الدين، فعند ذلك يفتح الله لهم أبواب الرزق، وأبواب الطاعة، وأبواب الخير.
فالعودة إلى التوحيد الصافي من الكتاب والسنة، ونبذ الشركيات بأنواعها، واستدلال الناس على التوحيد بآيات القرآن والسنة، وإحياء القضايا الإيمانية التي في القرآن والتي أهملت في عصور التقليد خير عظيم.
فأبواب الخير مفتوحة، ولكنها تريد همة عالية في التقرب إلى الله عز وجل، بحيث لا يكون هم الإنسان إلا هماً واحداً، كما قال عليه السلام عن ربه عز وجل أنه قال: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً).
فهذا وعد من الله عز وجل، وإذا وجدت غير هذا فتأكد بأن هناك غلطاً، وأن هناك خللاً.
وقوله: (الخميلة): كل ثوب له خمل، و (الخميصة): أيضاً نوع من الثياب الحسنة الجميلة.
ولا يتصور في مؤمن يوجد في قلبه شيء من الإيمان أن يضحي بعقيدته لمن يدفع أكثر، سواء كان من الشرق أو من الغرب، أو يرضى بالكفر ويتابع عليه من يظن أنه إن لم يعطه جاع أو عطش، وقد غاب عنه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58].
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
وقد صارت هذه المصيبة -والعياذ بالله- مبرراً للكثيرين في المتابعة على الكفر والفسوق والعصيان؛ بل على حرب الإسلام وأهله دون جريمة؛ إلا أنهم يلتزمون بالإسلام.
وذلك منهم إرضاء للمجرمين والكافرين، ومن أجل أموالهم، بل صار معلوماً أن الصفقات تعقد على ضرب الإسلام في مقابل الأموال التافهة الحقيرة، أو من أجل الاستمرار في كراسي الحكم والسلطة، فهذا الذي نراه هو حقيقة ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه العبودية للمال في أبشع صورها.
فأما من لا يوصله حب المال إلى الكفر، ولكن يوصله لفعل المعاصي -والعياذ بالله- فله نصيب من الشرك الأصغر، فما زالت هناك عبودية، لكن هذه العبودية شرك أصغر، نسأل الله أن يعيذنا من العبودية لغيره، وأن يجعلنا من عباده المخلصين.