إن من الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله: الهوى، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] هذه الآية نص واضح بأن الهوى إله يعبد من دون الله، ونحن نفرده بالذكر لأجل أن واقع الحياة المعاصرة -والحياة الغربية على وجه الخصوص- ونمط الحياة الذي يراد للناس أن يَعيشوها، هي قضية الحرية وتعظيم ما يهواه الإنسان هي القضية الأولى، وربما تكون أعظم الآلهة التي تعبد هي الشهوات، وليس لمجرد اتباع الشهوات، ولكن لعبادة الهوى، وهذا فرق بين أن يتبع الإنسان الشهوة، وبين أنه يجلس يؤسس ويؤصل اتباع الهوى.
فهناك فرق مهم بين شخص يقول: أنا مخطئ، وأنا أتبع هواي دون الرجوع إلى الشرع، وبين آخر يؤصل بأن كل إنسان حر في أن يفعل ما يشتهي؛ فإن الحرية هذه هي المبدأ الأول للثورة الفرنسية، وأن الناس أحرار فيما يأتون ويذرون، وعليها أسست نظام الحياة الغربية، فعندهم أن كل إنسان حر فيما يشتهي، وفيما يفعل.
ولذلك مثلاً: تجد أن الدنيا تقوم ولا تقعد لو حكم على أحد بالتفريق بينه وبين زوجته بسبب الكفر فيقولون: أين الحرية؟ هو حر يفعل ما يشاء كما يشاء.
وتجد أيضاً قضية الشهوات الجنسية مفتوحة تماماً في الغرب، بحيث إنه يمكن للمرأة أن ترفع قضية على زوجها أنه اغتصبها؛ لأنه جامعها بغير رغبتها! في حين أنه لو جامع غير زوجته - زنى- فإن ذلك لا يعد جريمة! فتجدهم يؤصلون قوانين الزنا، ويبينون ما هو الزنا، وما هو المحرم منه؛ فلا يكون محرماً إلا عن طريق الغصب والإكراه، ومن أجل هذا يقولون: من واقع أنثى بغير رضاها فإنه يعاقب بالأشغال الشاقة! وكل هذا تأصيل لقضية عبادة الهوى والعياذ بالله! وهذا فرق مهم جداً ينبغي أن يعيه جهلة جماعات التكفير والتوقف وأمثالها ممن يرى أن سلوك الإنسان بمجرده يحكم به على صاحبه بأنه متبع لهواه، فمثلاً: يرى المرأة المتبرجة، أو شخصاً تاركاً لبعض الواجبات، أو فاعلاً للمحرمات، فيقول: هذا إنسان يعبد الهوى، ويستدل بقوله تعالى: {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43].
أو يجد شخصاً يحب الكرة أو يحب الموسيقى أو يحب المغني الفلاني، فيقول: إنه يعبد ذلك الشيء! فلا بد أن نفرق بين هذا وبين تأصيل حق الإنسان في اتباع هواه، وأن اتباع الهوى حق للإنسان والعياذ بالله! وبين شخص يفعل ذلك على جهة المعصية، ويرى أنه مخطئ إذا فعل ذلك، أو إذا كان عنده شبهة فتبين له إذا كان يرى أنه على الصواب، فهناك فرق عندما يقول أحد: الموسيقى ليس فيها شيء، وليست حراماً، وهناك علماء يقولون كذا، وأين الدليل من الكتاب والسنة؟ فإن هذا أصبح عنده أصل: أن الناس عليهم أن يرجعوا إلى الدين، ولكن القضية أن نظام الحياة العلمانية ترى أن الإنسان حر في أنه لا يرجع إلى الدين، فتأصيل مثل هذا هو عبادة الهوى.
ومن أجل هذا أدخلناه في الطاغوت، مع أن المشهور أنهم يقولون: الطواغيت خمسة، لكنه فعلاً من الآلهة التي تعبد، بل ربما يكون أعظم طاغوت في واقعنا هو الهوى.
قال ابن كثير في تفسير الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] قال: مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان هذا الشيء دينه ومذهبه.
وإنما يكون هذا شركاً أكبر إذا كان اتباع الهوى يقود إلى الكفر والتكذيب والشرك بالله، وأما إذا كان فيما دون ذلك فهو شرك أصغر؛ ولهذا كانت المعاصي كلها من شعب الشرك، وإن لم يكن حكمها حكم الشرك الأكبر.
والواجب على الإنسان أن يجعل هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يتم إيمانه، ولابد أن يعرض رغباته وغاياته وخطراته على الكتاب والسنة، فما وافقهما أخذ به، وما خالفهما ألقاه وراءه ظهرياً.
فإن المعاصي في حكم الشرك، وتسمى كذلك في الجملة، لكننا في الحقيقة لا نسمي المعاصي شركاً أصغر إلا إذا ورد تسميتها بذلك، فمن ذلك -مثلاً-: عبد الدرهم، وعبد الدينار، والفواحش، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الرياء شركاً أصغر، وسمى الحلف بغير الله شركاً أصغر، فنحن نقول: إن المعاصي التي وردت فيها تسمية لا شك أننا نسميها كذلك، وإن كان في الجملة حكم المعاصي كلها أصلاً من باب الشرك الأصغر؛ يطلق ذلك عليها إجمالاً، كما نقول: المعاصي بريد الكفر، أو البدع بريد الكفر، أو المعاصي من شعب الكفر، وليس المقصود به كفر الخروج من الملة، وإنما المراد أنه شرك أصغر؛ لأنه اتباع للهوى، وذريعة للأكبر؛ ولأن كل المعاصي تقود في النهاية إلى الكفر، فمن الممكن أن تقود الإنسان إلى الكفر فعلاً إذا وصل إلى الكفر والتكذيب والشرك بالله، فهذا هو عبادة الهوى من دون الله.
والشرك الأكبر صاحبه مخلد في النار، والشرك الأصغر هو من جنس المعاصي في قضية خلود صاحبه في النار.
وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطيرة شرك).
فوجدنا أن فيها قسمين: شرك أكبر، وشرك أصغر.
ووجدنا أن في الحلف شركاً أكبر، وشركاً أصغر.
فنحن محتاجون لبيان هذه الأقسام، ومن أجل هذا وضع العلماء الفرق بينهما، حيث إنه ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أناساً ممن كان فيهم ما سماه شركاً معاملة المسلمين، فتبين لنا بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عنى أنه من ضمن أن الطيرة فيها ما هو شرك أصغر، ومن ضمن أن الحلف فيه ما هو شرك أصغر، فتبين بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد ذلك.