قال الله تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، فلم يجابه السيئة بالسيئة بل بالحسنة، وزاد أنه استغفر له، ويجوز الاستغفار للكافر طالما كان حياً، وذلك أن الله إنما يغفر له بأن يهديه، ولذا قال إبراهيم: سأستغفر لك، وظل يستغفر له إلى أن مات على الكفر، كما قال ربنا سبحانه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} [التوبة:114] أي: بأن مات كافراً؛ {تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
فهذا ليس فيه الأسوة في الاستغفار للمشركين؛ لأن قول إبراهيم لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه، وكان في فترة حياته، فكان وفاءً للوعد، وكان في فترة الحياة، ويجوز الاستغفار لغير الأب من المشركين والكافرين كما حكى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه، وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون).
فيجوز الدعاء للكفار وإن آذوا الأنبياء، وإن جرحوهم، وذلك من سعة الرحمة التي جعلها الله عز وجل في قلوب الأنبياء، وهذا الاستغفار لا يحصل نفعه للكافر إلا إذا تاب وهداه الله عز وجل؛ فإنما يغفر للكافر بأن يتوب من الشرك، وأن يرزقه الله عز وجل الدخول في الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فأما إذا مات مشركاً لم يجز الاستغفار، ولم يجز الاسترحام له، ولا يشرع طلب الرحمة له وهو على كفره، وإنما ورد الاستغفار كما ثبت في الحديث الصحيح: (أن اليهود كانوا يتعاطسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يشمتهم بقوله: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم).
والاستغفار بمعنى طلب الهداية؛ ولذلك لا يشرع طلب الرحمة للكافر حال كفره ولو كان حياً، وإنما تطلب له المغفرة، لأن ذلك فيه إقرار بأنه على ذنب عظيم، وفيه تبيين أنه على خلاف الهدى، ولذا يدعى له بالهداية وبالمغفرة بأن يتوب الله عز وجل عليه.
ومن هذا قول إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36].
قال الله تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، نجد في هذه الآية الكريمة استشعار إبراهيم عليه السلام لمعاني صفة الله عز وجل، واستحضاره لنعمه عليه خاصة.
وقال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، ولم يقل: ربك، أو ربنا، أو رب العالمين، وإنما قال: ربي، لشعوره بهذه الخصوصية بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
هذه الخصوصية بهذه العبودية الخاصة، وأنه كان به حفياً، أي: عوده الإجابة، والمؤمن إذا تذكر إجابة الله عز وجل لدعواته التي دعا بها كان ذلك من أسباب مزيد الرجاء، وطلب مزيد الفضل من الله سبحانه وتعالى، فإنه عز وجل حفي بعباده المؤمنين، وهو سبحانه حفي بأنبيائه أعظم من غيرهم، فقد عودهم أن يجيبهم، وأن يصلح شأنهم وأمرهم، وأن يتولى أمرهم بنفسه سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى الذي امتن على عباده المؤمنين بذلك قال: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47].
وهذا الاستحضار لمعاني الأسماء والصفات من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وختم الدعاء بأسماء الله وصفاته في أدعية الكتاب والسنة من أعظم ما يبين لك أهمية هذه المسألة، وهو أن يكون العبد متعلقاً بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، متذكراً نعمته، مثنياً عليه سبحانه، مستحضراً خصوصية عبوديته لله عز وجل، وأن بينه وبين الله ما لا يعلمه الناس، كما قالها يعقوب عليه السلام: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62].
وهكذا يتكرر هذا المعنى كثيراً في أدعية الأنبياء؛ لأنهم يعلمون من الله عز وجل ما لا يعلمه الناس، ويستحضرون من معاني أسمائه وصفاته ما يحضر قلوبهم بين يديه سبحانه وتعالى، مستشعرين عظمته وقوته، وتدبيره لهذا الكون، ولكل ما فيه علويه وسفليه، ظاهره وباطنه، غيبه وشهادته، ويستحضرون أن الأمر من عنده لا من عند الناس، {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47].
سبحانك اللهم وبحمدك.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا، وللمؤمنين والمؤمنات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.