أوذي إبراهيم باللسان مع التهديد بالأذى بالفعل، ولم يكن من إبراهيم عليه السلام رد عليه، وهكذا يوطن الداعية نفسه أن لا ينتصر لنفسه {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47]، ليس هذا من باب التحية ولكن من باب مقابلة الإساءة بالإحسان.
أي: ستسلم مني وأنت مني في سلام، وليس معنى ذلك: التحية ولا أنه قصد التحية التي لا يشرع أن يبدأ بها الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا راسل ملوك الكفار لم يبدأهم بتحية، وإنما يقول: سلام على من اتبع الهدى، وليست هذه بتحية لهم لأنهم ليسوا ممن اتبع الهدى، لأن التحية إكرام والكافر ينبغي أن يهان، بمعنى: ألا يعظم ولا يبجل ولا يوصف بالأوصاف التي فيها الثناء والتعظيم والمدح، وإنما يبين حقارة مذهبه، وبطلان طريقته، ولا يكون له التبجيل والتوقير، وإنما ذلك لأهل الإيمان؛ فلا يبدأ الكافر بالتحية، وإن بدأ هو بالتحية ردت عليه كما شرع الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم).
أما أن يبدأهم بالتحية فلا، ولذا لم يكن هذا من باب التحية من إبراهيم، وإنما معنى الكلام جملة يخبر فيها إبراهيم أن أباه سيسلم منه، فلن يرد الأذى بأذى، ولن يرد الكلمة السيئة بكلمة مثلها، ولن يرد التهديد بالتهديد.
وهكذا لا بد أن تفهم أيها الداعي إلى الله عز وجل طريقك في الدعوة إلى الله، قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35].
فهذه منزلة لا يلقاها ولا يوفق لها إلا ذو حظ عظيم، وهي أن يقابل الإساءة بالإحسان، وكما قال ربنا سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، حتى يشرع الله عز وجل الانتصار لدينه، ويمكن المؤمن من القيام بالحق الذي أمر الله عز وجل به بالقوة التي شرعها الله سبحانه وتعالى، فعند ذلك ينتصر لله لا لنفسه، وأما قبل ذلك فإنه يشرع الصبر والاحتساب، يشرع أن يصبر وأن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن يقول لمن أساءوا إليه: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، كما قال عز وجل عن مؤمني أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، وقال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
فينبغي لك أيها المسلم أن تعامل الناس بذلك، وهذا من أعظم ما يكسبك قبول دعوتك الحق؛ بالسلوك الطيب في الناس، فإنك إذا واجهت كل إساءة لك بإساءة مثلها، وعاقبت دائماً بمثل ما عوقبت به لم يكن لك فضل على الناس، ولم يكن لك فيهم قبول مثل قبول من صبر واحتسب، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].
وقال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
فالله عزم على عباده المؤمنين في ذلك، وأكد عليهم، وأمرهم سبحانه وتعالى بالصبر والعفو والصفح، وجعل لهم في الأنبياء الأسوة الحسنة حتى يقتدوا بهم؛ في ألا يقابلوا الإساءة بالإساءة، ولكن يعفو ويصفح.
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: (ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح).
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هكذا حتى مع الكفرة قبل أن يسلموا، يعفو ويصفح صلى الله عليه وسلم عنهم، فكيف بالمسلم، وكان ذلك من أسباب إسلام كثير منهم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لمشركي مكة وقد تمكن منهم، وهم الذي قاتلوه وجرحوه، وقتلوا أصحابه، وقتلوا أولياء الله عز وجل وخيرة أهل الأرض، ومع ذلك فلما تمكن منهم قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
وكان من أسباب إسلام ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن إليه، ومن عليه حين أسرته خيل المسلمين، وربطه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ثلاثة أيام متتابعة، (فقال: ما عندك يا ثمامة؟!) فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فيتركه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متتالية، ثم بعد ذلك يقول: (أطلقوا ثمامة)، فيطلق ثمامة وقد تحول وتغير وصار إنساناً آخر، فينطلق وهو سيد قومه، ومن حقه أن ينصرف إلى ما كان يريد، وإلى وجهته، فينطلق إلى أقرب بئر في حديقة، فيغتسل ويرجع، فيشهد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: والله يا رسول الله ما كان من وجه أبغض إلي من وجهك، وقد أصبح أحب الوجوه إلي، وما كان من دين أبغض إلي من دينك، وقد أصبح أحب الدين إلي، وما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، وقد أصبح أحب البلاد إلي.
فانظر كيف يثمر الإحسان، وكيف يثمر العفو والصفح عن الناس، وكيف تثمر هذه المعاملة الحسنة الطيبة في أن تقد القلوب إلى الإيمان بفضل الله عز وجل، ويتأكد ذلك تأكيداً شديداً مع الوالدين، وذلك أنه لا يشرع في الإنكار على الوالدين التغليظ والتعنيف؛ فإن الله عز وجل قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]، وهذا عام، ولذلك خصص العلماء به أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالوا: لا يتجاوز مع الوالدين إلى درجة التعنيف والتغليظ، بل لا يزال في الدرجة الأولى من التعريف والنصح، والتخويف بالله سبحانه وتعالى.
وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فلم يجعل سبحانه وتعالى الكفر سبباً لنسخ الأمر بالإحسان بل الأمر بالإحسان للوالدين باق ومستمر حتى مع كفر الوالدين فضلاً عن فسقهما؛ فليعلم كل ابن وبنت وجوب بر الوالدين على الدوام، ووجوب الإحسان إليهما حتى ولو كانا كافرين أو فاسقين، أو أمرا بمنكر؛ فإنك لا تستجيب لهما طاعة لله عز وجل وتعظيماً لأمره، ولكن في نفس الوقت لا تسيء المعاملة بل تحسن إليهما {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24].