الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، عندما تصل الدعوة إلى الله عز وجل إلى مداها بأن تبلغ البعيد والقريب والقاصي والداني، وتقام الحجج ويستمر الكفرة على إعراضهم -وإبراهيم عليه السلام دعا إلى الله عز وجل حتى وصل إلى هذه الغاية- فعند ذلك يشرع الاعتزال.
قال: ((وَأَعْتَزِلُكُمْ)) أي: يفارقهم، وكان ذلك بعد أن ألقوه في النار ونجاه الله عز وجل منها، فإبراهيم دعا أباه وقومه، وبين لهم، وأقام عليهم الحجج، وما وجد منهم إلا التكذيب والأذى، والاضطهاد الفظيع، وألقوه في النار فعلاً، فكانت نجاته بأمر الله سبحانه وتعالى.
فلما اكتمل هذا الأمر هاجر إبراهيم عليه السلام، واعتزال أهل الباطل واعتزال باطلهم سنة ماضية طالما وصلت الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى إلى غايتها، وظلوا على إعراضهم، وهذه العزلة يجب منها قدر معين في كل وقت على كل مسلم، وهو ما يلزمه من اعتزال فعل الباطل وعقائده وسلوكه.
فهذا قدر واجب على مر الزمن، فلا تبيح له قرابته، ولا مواطنته، ولا قوميته لقومه أن يشاركهم في باطلهم، وإنما أباح الله عز وجل موافقة ظاهرة لأهل الباطل عند الإكراه فقط، وما أباح ذلك لمصلحة ولا لمداهنة ولا لأمور متوهمة، ولا لمجرد علاقات عائلية، أو روابط وطنية أو قومية أو غير ذلك، فما أجاز الله أن يوافق الإنسان على الكفر والباطل والمعاصي إلا لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
قال سبحانه وتعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].
فلا يجوز لمسلم أن يوافق أهل الباطل بزعم أنه يعيش وسطهم، وأن من عاش وسط قوم فلا بد أن يحترم قوانينهم، أو أوضاعهم، أو عاداتهم أو تقاليدهم، لا يجوز ذلك إلا عند الإكراه المعتبر شرعاً، وليس مجرد وجود الإنسان في مكان يجعله مضطراً لذلك إذا قرروا ذلك، بل لا بد أن يكون هناك إكراه مادي معتبر؛ بأن يوجد تهديد بقتل، أو قطع عضو من الأعضاء، أو تعذيب أو حبس وقيد أو إتلاف مال، أو نحو ذلك، مع تفاوت ما يكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في نطق كلمة الكفر، كالإكراه المعتبر في قبول هدية أو نحوها.
وإنما يعتبر ذلك بالنظر في أدلة الكتاب والسنة، فلا يعتبر السجن مثلاً إكراهاً على الزنا في حق الرجل ولا في حق المرأة، فلو حبس سنين على أن يزني مثلاً ما كان ذلك معتبراً شرعاً، وأما القتل والتهديد به، وغلبة الظن بحصوله، أو التعذيب الشديد، كما وقع لـ عمار فمبيح لذلك، فهذا قدر واجب من العزلة.
فإذا لم يستطع أن يقيم دينه إلا بأن يفارق أهل الباطل ودارهم، وجب عليه ذلك، وكذا مفارقتهم حتى لا يتأثر بهم في سلوكه وعمله، فصحبة أهل الشر والسوء تجلب على الإنسان موافقتهم ومشابهتهم فيما هم فيه، وهذا واقع مشهود في كثير من الناس، فإن مصاحبته للكفرة والظلمة والعصاة والفسقة والمجرمين تهيئه وتقوده إلى فعل أفعالهم، وإلى موافقتهم من باطنه قبل أن يكون من ظاهره، والعياذ بالله من ذلك.
فكثير من الناس يحب أهل الباطل لكثرة معاشرتهم، فمن وجد نفسه تقوده في خلطته لقرناء السوء إلى موافقتهم؛ وجب عليه فوراً مفارقتهم، بل لا يجوز له أن يقيم وسطهم إلا مع الإنكار عليهم، ودعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى.
ولهذا أقام الأنبياء في بلاد الكفر يدعون إلى الله عز وجل، وينكرون الشرك والكفر والفسوق والعصيان، ولا يجوز لمسلم أن يقيم في أرض يفعل فيها الكفر والفسوق والعصيان إلا لغرض شرعي صحيح، كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، أو لمصلحة شرعية أخرى، وأما أن يكون مقيماً لأجل دنيا يصيبها، أو أهل أو مال أو ولد، فهذا ممن يقال له: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97].
طالما كان عاجزاً عن إقامة دينه متأثراً بحالهم، وهو لا شك يتأثر، فإن الإنسان إنما يتأثر بأصحابه وأصدقائه أعظم التأثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، والصداقة من معاني الموالاة فلا تصح لكافر، بل لا يجوز أن يصادق الفسقة والفجرة والظلمة، ولا يسكت عليهم حين يجلس معهم في مجالسهم، قال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، وقال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116]، فأنجى الله الذين ينهون عن السوء، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]، ومن لم يتمعر وجهه في الله وهو يرى المنكرات أمامه، ولا يقيم لغرض شرعي صحيح، فهذا الذي يبدأ به، فإنه لم يتمعر ولم يتغير وجهه في الله سبحانه وتعالى، ولا يكون صالحاً، وإن كان يظهر الصلاح، أو يفعل في نفسه الصلاح؛ فليوطن كل مسلم نفسه على أن يعتزل الباطل وأهله، يعتزل الباطل، فلا يفعله ولا يعتقده ولا يرضى به ولا يقره، وكذلك لا يصاحب أهله، ويعتزل أهله فيفارقهم إلا لغرض شرعي صحيح.